في خبر عاجل، فاجئتنا حكومة "الوفاق" المزعوم في طرابلس اليوم ببيان تعلن فيه وقف إطلاق النار والبدء في عملية سياسية تتضمن خروج القوات الأجنبية وتنظيم انتخابات تشريعية و تشكيل حكومة جديدة خلال ستة أشهر مع ضرورة استئناف انتاج وتصدير النفط وتشكيل قوة أمنية رسمية تتولى السيطرة على سرت والجفرة !
و لست أظن أحداً من المتابعين للشأن الليبي قد ابتلع ذلك الطعم الذي يريد به السراج، ومن يقفون خلفه، الظهور بمظهر المنحازين للسلام والحوار، فالواضح وبجلاء أن بيان الوفاق حول وقف إطلاق النار هو مجرد خدعة لكسب الوقت لحشد المزيد من المرتزقة والميليشيات في مدن وموانئ ومطارات غرب ليبيا، والعمل على تحييد الجيش الوطني الليبي ونفي صفة الشرعية عنه في الشرق لفتح الباب لحصان طروادة الجديد المتمثل في القوات الأمنية المقترحة لتدخل سرت و الجفرة تحت ستار حفظ الأمن بعد نزع سلاحهما!
فكيف يمكن لعاقل أن يصدق قبول السراج تنظيم انتخابات وتشكيل حكومة جديدة ستلغي، في حال افتراض نزاهتها، كل ترتيباته الأمنية والإقتصادية والعسكرية مع أنقرة و الدوحة التي لم يمض على توقيعها بضعة أسابيع وتمنحهما السيطرة بالكامل على مقدرات وثروات واقتصاد ليبيا لعشرات السنين!
المثير للحيرة كذلك، أن بيان حكومة السراج، المدعومة من إيطاليا و تركيا و قطر، والتي فرضتها الأمم المتحدة على المشهد الليبي من خلال اتفاق الصخيرات دون شرعية دستورية أو ظهير شعبي، وما جاء في المقابل من رد عليها من مجلس النواب الشرعي المنتخب والمدعوم من فرنسا ومصر والإمارات والسعودية و روسيا، خرجت جميعها دون تحديد واضح لتعريف "القوات الأجنبية" أو تحديد الجيش الوطني الليبي بصفته الجهة الوحيدة المخول لها حمل السلاح ، بل وتجاهلت تماماً تحديد ماهية الأطر الدستورية التي ستتم الانتخابات بناءاً عليها، بينما لا يوجد هناك دستور من الأساس! وهو ما سيؤدي بالطبع لإعادة إختراع العجلة من جديد لنجد أنفسنا تحت مظلة اتفاق أسوأ مما تم تمريره في اتفاق الصخيرات المشؤوم الذي لم يضمن سوى مصالح الغرب، ولم يقض على شيئ سوى وحدة الأراضي الليبية وسيادة أبنائها عليها!
إذن، ما الداعي لإصدار مثل هذا البيان، وفي هذا الوقت تحديداً ؟!
من يقرأ بيان حكومة الوفاق سيدرك جيداً أن الأمر لا علاقة له على الإطلاق بمصلحة ليبيا أو البحث عن الحل السياسي من خلال الحوار أو تنظيم الانتخابات التشريعية و تشكيل مجلس رئاسي جديد كما تم الاتفاق عليه بين صالح عقيلة رئيس مجلس النواب والسفير الأمريكي في القاهرة، ففي طيات البيان هناك ما يؤكد وبقوة أن الأمر كله يتعلق بعوائد النفط و ضرورة استئناف انتاجه "فوراً" وتصديره وضخه في أوردة أوروبا و والولايات المتحدة! أما مهلة الستة أشهر المفترحة حتى إجراء الانتخابات، وتشكيل مجلس رئاسي جديد، ، فستمتد "للأبد" كما حدث مع المدة القانونية لبقاء حكومة السراج، وسيمنح امتدادها لحكومة السراج تلك الشرعية التي فقدتها بعد انتهاء مدة ولايتها القانونية المنصوص عليها في اتفاق الصخيرات!
وما يؤكد ذلك الطرح، هو البيان الذي أصدرته المؤسسة الوطنية للنفط الخاضعة بالكامل لنفوذ طرابلس، بعد ساعات فقط من بيان السراج، والذي أعلنت فيه أنه لا استئناف لعملية تصدير النفط إلا بعد خروج الجيش الوطني الليبي من كافة المنشآت النفطية !
وهكذا تتضح تفاصيل الخطة شيئاً فشيئاً فمنذ اقترب الجيش الوطني من تحرير طرابلس، هرول الجميع في أوروبا وأمريكا والأمم المتحدة لفرض وقف إطلاق النار في طرابلس بدعوى حماية المدنيين، وهو ما اتضح زيفه بعد ذلك حيث لم يكن ذلك سوى غطاء لمنح السراج المزيد من الوقت للحصول على الدعم العسكري و اللوجيستي التركي، بضوء أخضر من واشنطن، لكي يتمكن من صد الهجوم، بل والقيام بهجوم مضاد أسفر عن انسحاب الجيش الوطني من غرب ليبيا، وما تبع ذلك من غض الجميع الطرف عن نقل الآلاف من المرتزقة وأنظمة الصواريخ والطائرات المسيرة والمدرعات من تركيا وسوريا وقطر إلى طرابلس و درنة ومصراتة في خرق واضح لكل القرارات الدولية، ثم تدخل أوروبا لحل النزاع عن طريق مقترح وزير خارجية ألمانيا "نزع سلاح" سرت والجفرة فقط دون غيرهما من المدن التي يسيطر عليها العنف والجريمة والإرهاب نتيجة سيطرة الميليشيات الإرهابية المدعومة من السراج عليها، وأخيراً ، وليس آخراً، إزاحة الستار اليوم عن مسرحية وقف إطلاق النار وتنظيم الانتخابات وتشكيل مجلس رئاسي جديد شريطة تسليم سرت والجفرة لقوات أمنية رسمية وخروج الجيش من المنشآت النفطية لاستئناف انتاج النفط!
ويمكنك بالطبع عزيزي القارئ أن تستنتج بقية المخطط الذي أرى فيه من بعيد خرق ميليشيات الوفاق لكل تلك الاتفاقات لتسيطر على كافة الأراضي الليبية بتسليح تركي ودعم مالي قطري وسط عجز كامل للأمم المتحدة إلا عن إبداء قلقها، ومباركة أمريكية لا تهدف لشيئ إلا لمنع سيطرة الدب الروسي على النفط الليبي، ودعم إيطالي يهدف للحد من نفوذ باريس في ليبيا وضمان حصة الشركات الإيطالية في الكعكة الليبية، ولو كان ذلك على حساب أمن واستقرار المنطقة برمتها!
المثير للسخرية هو مسارعة الأمم المتحدة و مجلس الأمن بالترحيب ببيان حكومة السراج وضرورة خروج القوات الأجنبية من ليبيا بينما ظلت صامتة لأعوام تجاه تزويد تركيا و قطر للسراج بالسلاح والعتاد والأموال والمرتزقة في وضح النهار وأمام أعين الجميع لتستكمل بامتياز دور القوادة التي ترعى باحتراف كافة أشكال الدعارة السياسية التي يمارسها الكبار للسيطرة على مقدرات شعوب العالم!
في النهاية .. أعلم أن هناك ذلك السؤال الذي يجول بخاطرك، فهل أنا أعلم ببواطن الأمور من القيادة السياسية في مصر التي رحبت كذلك بالبيان ؟
و للإجابة على ذلك، أود أن أوضح أن مصر لم ترحب ببيان السراج، ولكن جاءت كلمة الرئيس كالآتي:
"أرحب بالبيانات الصادرة عن المجلس الرئاسى ومجلس النواب فى ليبيا بوقف اطلاق النار ووقف العمليات العسكرية فى كافة الأراضي الليبية باعتبار ذلك خطوة هامة على طريق تحقيق التسوية السياسية وطموحات الشعب الليبى فى استعادة الاستقرار والازدهار فى ليبيا وحفظ مقدرات شعبها"
فالترحيب جاء بكافة البيانات الصادرة من أطرف الصراع جميعاً تأكيداً على إعلان القاهرة، وجاء محدداً ومحصوراً في "وقف إطلاق النار والعمليات العسكرية في كافة الأراضي الليبية" فقط وليس ما ارتبط بتلك البيانات من مقترحات غير واضحة الأهداف أو آليات التنفيذ!
كما أنه يمكنني أن أتفهم ترحيب مصر ببيان حكومة السراج حول وقف إطلاق النار رغم كل ما يحمله من نوايا خفية، لكون تلك الخطوة، وإن تحفظنا على تفاصيلها، فرصة لا يمكن إهدارها لتأجيل أو التقليل من حدة المواجهة المباشرة ضد أعداء مصر في ليبيا، وهو ما سيمنحنا بالتأكيد المزيد من الوقت للتركيز على ملفات أخرى لا تقل خطورة شمالاً في المتوسط، وشرقاً في سيناء والبحر الأحمر، وجنوباً في إثيوبيا!
حفظ الله مصر و أعاد للشعب الليبي أرضه و وطنه وأمنه وثرواته من أيدي الخونة والعملاء.
No comments:
Post a Comment