Saturday, February 27, 2021

شرح البيان .. في دعم بن سلمان


إيهاب الشيمي 

عقب انهيار الإمبراطورية العثمانية في أوائل القرن العشرين أدركت القوى الاستعمارية الكبرى أن الصراع فيما بينها لن يصب سوى في مصلحة  أعدائهم المشتركين، وأن عليهم البحث عن حل المعادلة التي سترسخ سيطرتهم على العالم بصورة عامة، والشرق الأوسط بصفة خاصة، وتضمن  عدم عودة التهديد الإسلامي من جديد، و تؤمن السيطرة على طرق التجارة و موارد الشرق الأوسط اللامحدودة لدعم آلة الحرب العملاقة لهذه الدول، و إمداد اقتصادياتها بما تحتاجه على حساب شعوب المنطقة.

وكان ذلك الحل هو  تخليهم عن أحلام بناء الإمبراطوريات التاريخية التي طالما تناحرت فيما بينها، وتوحدهم جميعاً في كيانات سياسية واقتصادية ضخمة، تتجاوز اختلافاتهم الداخلية و بنيتهم المجتمعية المتناقضة، و لغاتهم المتعددة، و أعراقهم المختلفة، بل وكراهيتهم الثابتة تاريخياً لبعضهم البعض.

ومنذ ذلك الحين استمرت تلك الدول في تنفيذ و دعم آليات تلك الاستراتيجة بدءاً من اتفاقية سايكس بيكو، منذ ما يربو على مائة عام، و مروراً بمعاهدة بازل و نهايةً بما نراه الآن من تغول كيانات ضخمة مثل الاتحاد الأوروبي و حلف النيتو.

و دعني عزيزي القارئ أستبق ذلك السؤال الذي يدور برأسك الآن، وأوافقك أنه لا شك أن جميعنا يعلم ذلك، و أن قادتنا لا يحتاجون دروساً في التاريخ الذي يعلمون خباياه جيداً، و لكن ما يؤرقني هو أننا لم ندرك بعد أن السلاح الوحيد القادر على التصدي لتلك المؤامرة هو نفس السلاح الذي استخدمه الغرب ضدنا.

 نعم .. من حق كل دولة من دولنا أن تسعى منفردةً لتنمية القدرات البشرية و خلق الآليات التي تحسن من إدارة الموارد المتاحة لديها، و أن تعمل بقوة على إصلاح الداخل و ضمان الحريات و إتاحة الفرص للجميع لخدمة الوطن، بل وأن تسعى للدخول في تحالفات تضمن مصالحها الإقليمية والدولية، وإن لم يرق ذلك للبعض!

و لكن علينا أن ندرك كذلك أن من بدأوا بفلسطين، ثم لبنان، ثم العراق، ثم السودان، ثم سوريا، ثم ليبيا، و و مازالوا يحاولون بإصرار ومثابرة في مصر و تونس، سيواصلون مخططهم ليمتد إلى بقية الدول و على رأسها المملكة العربية السعودية وشقيقاتها في الخليج العربي.

علينا أن نرى كيف أن واشنطن في السنوات الأخيرة الماضية ، ومنذ ولاية أوباما الأولى، سعت وبشدة لفصل الرياض عن محيطها العربي و ربطها بتحالفات أوروبية و تركية خاضعة لهيمنتها، و هو ما يمكن قراءته بين سطور تحالف الرياض مع واشنطن في الحرب على داعش في سوريا وإعلان البنتاجون حينها أنه من الأفضل التدخل برياً في تحالف بقيادة السعودية  لإزاحة الأسد عسكرياً بحجة إنقاذ الشعب السوري، في محاولة واضحة لإنهاك القوة السعودية على أكثر من جبهة شمالاً في الشام و جنوباً  في اليمن، في نفس الوقت الذي طلبت فيه تأجيل التوقيع على بروتوكول القوة العربية المشتركة التي كانت ستوفر غطاءاً عربياً قوياً للحرب على الإرهاب في سوريا وليبيا واليمن ومصر!

علينا أن نتيقن أن هؤلاء لا يعجبهم كون السعودية و مصر كفتا ميزان استقرار المنطقة و الضامنتين لبقاء العرب كقوة فاعلة، إحداهما بثقلها الاقتصادي والديني، و الأخرى بثقلها التاريخي والبشري والعسكري، و بالتالي فلا يمكن أن نستبعد فرضية أن أعداء الأمة قرروا أن تكون السعودية هي  الضحية التالية للابتزاز السياسي والإرهاب و الفوضى والمعانة الاقتصادية، لينهار ذلك التوازن الدقيق، ولننسى جميعا ًكل تلك الخرائط التي تحدد ما اعتدنا على تسميته بالوطن العربي!

و قد يظن البعض أنني قد بالغت بعض الشئ هنا، فالسعودية هي الحليف الأهم لواشنطن وأوروبا طوال العقود الماضية ولا يمكن اعتبار هجوم بايدن الحالي على قيادتها، باستغلال قضية مقتل خاشقجي، من أجل تحقيق مصالح آنية للحزب الديمقراطي سبباً للاعتقاد أن هناك مؤامرة كبرى تحاك ضد المملكة والمنطقة بأسرها!

ولكن مبرراتي لذلك الاستنتاج يمكن رؤيتها بوضوح في كل تلك الاتفاقات التي عقدتها أوروبا والولايات المتحدة مع إيران بدايةً من إبرام الاتفاق النووي الذي غض النظر عن استمراها في بناء منظومة صواريخها الباليستية التي يمكنها بها تهديد المنطقة برمتها، وسمح برفع العقوبات الاقتصادية عنها ليمكنها الحصول عى المزيد من الموارد و الأموال اللازمة لدعم عملائها في اليمن و سوريا و لبنان و العراق، بل وتطوير سلاح العمائم الأخطر الذي سيعملون على استخدامه بإفراط في المرحلة القادمة  وهو بث الفتنة الطائفية و تأجيج الصراع الشيعي السني داخل المملكة بل وفي أرجاء الخليج العربي بأكمله!

و لا يمكنني هنا إلا أن أضيف أمراً آخر، قد لا يتفق معي الكثيرون في رؤيته أو إدراك خطورته، وهو منح واشنطن الكثير من المساحة لأنقرة لتدغدغ أحلام استعادة الإمبراطورية حكامها من جديد، وتطلق لهم العنان في سوريا والعراق وليبيا وأرمينيا وشرق المتوسط برمته، ليظل أردوغان في انتظار الفرصة الذهبية  التي يتم من خلالها إضعاف الرياض كممثل للقوى السنية في المنطقة، و إنهاكها إقتصادياً و عسكرياً، ليتمكن حينها من ادعاء أحقية تركيا في تمثيل تلك القوى بدلاً من السعودية، و تحقيق حلمه في اعتلاء كرسي الخلافة العثمانية من جديد على أنقاض الدول العربية، التي يرى أنها مجرد تركة يجب أن يستردها، و هو ما يمكن كذلك استنباطه من تحالف أنقرة مع طهران عسكرياً و اقتصادياً برغم وضوح مشروعها الصفوي للاستيلاء على المنطقة برمتها، وتشكيك كلاً من طهران و أنقرة، على ألسنة مسؤولين بارزين، في أهلية المملكة و قدرتها على احتضان أعظم الشعائر الدينية لدى المسلمين وسعيهما من آن لآخر لطرح مشروع تدويل المقدسات!

و مما يزيل المزيد من حوائط الشك و الريبة أن الولايات المتحدة، تحت إدارة الحزب الديمقراطي، بدأت فعلياً في فك ارتباطها بالسلطة في الرياض واستهداف العائلة الحاكمة قبيل حادثة خاشقجي بأعوام، هو ما أثاره أعضاء بالكونجرس في عام 2016، وفي تزامن مريب مع حملة شبكة سي إن إن الإخبارية المقربة من دوائر الحزب، و التي تدور جميعاً في فلك اتهام العائلة المالكة السعودية رسمياً بالضلوع في هجمات الحادي عشر من سبتمبر بناءاً على معلومات وفرها زكريا موسوي عضو تنظيم القاعدة المقرب من بن لادن و الذي أكد في اعترافاته أن من بين الممولين للمجموعات التي قامت بتدريب الطيارين الذين قاموا بالهجمات في ألمانيا و الولايات المتحدة أمراء سعوديين و ذكر من بينهم تركي الفيصل و بندر بن سلطان !

و بالرغم من تصريح شبكة سي إن إن الإخبارية أنها لا تؤكد صحة هذه المعلومات، إلا أنها قامت بإعادة نشرها في 2016 بعد أن نشرتها للمرة الأولى في فبراير 2015 ، و هو ما تلقفه في تنسيق واضح نواب و أعضاء مجلس شيوخ سابقين لدعم إصدار قانون يتيح مقاضاة السعودية و تجميد أصولها في الولايات المتحدة التي تقترب من تريليون دولار أسوة بما فعلته أمريكا لتدمير الاقتصاد الإيراني طوال السنوات الماضية، و هو ما أراه سيحدث في المستقبل القريب في ظل توجهات إدارة بايدن التي تمثل الولاية الثالثة لباراك أوباما!

و لا أنكر هنا، بالرغم من كل تلك المؤشرات على ضرورة الوحدة و التكامل في وجه تلك المخططات، أن هناك الكثير من نقاط الخلاف التي طفت على السطح بين مصالح كل من الرياض والقاهرة في الكثير من الأمور الشائكة في المنطقة، إلا أنني وفي الوقت ذاته لا أرى في تلك الخلافات تعارضاً مع الأهداف المشتركة العليا للبلدين بقدر ما هو تعارض في أدوات وأسلوب تحقيقها لدى كل طرف!

فبينما رأت الرياض ضرورة رحيل الأسد و دعم المعارضة في سوريا، رأت القاهرة أنه لا بد من عدم الإطاحة بالرجل حتى التوصل لصيغة سياسية تضمن بقاء الدولة ووحدة الأراضي السورية حتى لا تصل لمرحلة السيولة الثورية التي تفقد معها كل مقومات الدولة بمعهناها الحديث، كما حدث في ليبيا، لنسقط في مستنقع "قاعدة" جديدة، و "داعش" أكثر وحشية و نفوذاً،  و هو الخلاف الذي حاول وكلاء الغرب تصويره والترويج له على أنه تأييد مصري للمعسكر الروسي ضد الرياض، و ترجمه آخرون على أنه ارتماء من الرياض في أحضان واشنطن ضد مصالح القاهرة، وانساق خلف كل هؤلاء في سذاجة مفرطة شعوب وإعلام، بل وبعض مسؤولي البلدين ! 

كما أنه لا يمكننا أن نغفل الخلاف الذي ظهر في الحملة العسكرية للتحالف العربي بقيادة السعودية في اليمن نتيجة تحالف الرياض والحكومة الشرعية مع حزب الإصلاح، الذراع السياسي للإخوان المسلمين في اليمن، كخيار عسكري استراتيجي فرضته ظروف الصراع، و هو الأمر الذي تفهمته القاهرة بالطبع، و لكنه أيضاً ما تعاملت معه بالكثير من الحذر والتحفظ لما نعلمه من التوتر الشديد في العلاقة بين جماعة الإخوان و الشعب المصري بأسره، و ما تقوم به الجماعة من حملة شرسة ضد مصر في أروقة الدبلوماسية العالمية بدءاً من الدوحة و مروراً بأنقرة، و وصولاً إلى الكابيتول في واشنطن، ناهيك عن دعمها الأيديولوجي لكل التنظيمات الإرهابية المسلحة التي تعمل ضد الدولة المصرية في سيناء!

خلاصة القول يا سادة .. أننا الآن أمام خيارين لا ثالث لهما ..

إما أن تستغل مصر والسعودية، شعوباً وحكومات وقادة، ذلك القدر المتاح من الاتفاق لدعم بعضهما البعض أمام تلك الهجمة الشرسة لأعدائهما، وأن نتوقف عن التركيز على نقاط الخلاف والتمسك بالنعرات القومية والتاريخية ومشاهدة أحدنا للآخر وهو يقف وحيداً وسط المعركة .. و إما أن نحصر أهدافنا في مصالحنا الفردية الآنية المحدودة لنمنح أعدائنا فرصة اصطيادنا  واحداً تلو الآخر كالشياه المنفردة !

حفظ الله مصر ..

حفظ الله المملكة العربية السعودية.