Friday, December 11, 2015

الجانب الآخر من المرآة !

إيهاب الشيمي
 
يقتلني في كل لحظة المجهود الخارق الذي أبذله لكي أخفي ذلك الإحساس العميق بأن كل ما فعلته و أفعله يذهب أدراج الرياح !
 
ترهقني تلك المقاومة الرهيبة لرغبتي المتزايدة يوماً بعد الآخر في الإنفصال عن كل ما حولي و التقوقع حول نفسي التي غير ملامحها في السنوات الأخيرة الكثير من مشاعر الألم، و الأمل، و المهانة، و الثورة، و الصدمة، و الغضب.
 
يؤلمني ذلك الشعور المقيت الذي ينتابني و أنا أرى الجميع يتحركون على الجانب الآخر من المرآه بينما أتشبث أنا بالأمل أن يلحظ أحدهم وجودي على هذا الجانب، أو أن يعبر صراخي ذلك السطح الأملس البارد للمرآة ليخترق مسامعهم و يسرعوا بمد أيديهم لإنقاذي قبل أن أسقط في هوة يأسي أن يروا شيئاً غير انفسهم و قناعاتهم و رؤيتهم الخاصة لمستقبل الوطن.
 
نعم، يمكنني أن أراهم يبتسمون على الجانب الآخر .. ها هم يتسامرون على ذلك الشاطئ الرملي الذي حالما وصلوا إليه و توهموا أنه يمنحهم الأمان، بينما لا يلحظ أحد منهم ذلك الجدار المائي الضخم الذي يتحرك نحوهم من جديد تحت جنح الظلام ليجتاح في طريقه كل شيئ و ليحطم كل ما يصطدم به .. حتى جدار المرآة الزجاجي السميك الذي يفصل بيني و بينهم، و الذي ميز الفشل كل محاولاتي لتسلقه ، و كل مجهوداتي لمجرد شرخه.
 
رفيقي الوحيد على هذا الجانب هو ذلك الصوت الكريه الخافت الذي يمر عبر رأسي كل آونة و أخرى هامساً لي أنهم لا يستحقون كل ذلك العناء، و كل ذلك الذي أكنه لهم من حب، و كل ما اختلقت لهم من أعذار تبرر غفلتهم عن كل تلك الأخطار المحدقة بهم، و كل تلك الأحلام التي طالما تمنيت أن تتحقق لهم و لأبنائهم، فهم أول من كفر بكل ما أؤمن به من قيم الديمقراطية، و رفض الإقصاء، و قبول الآخر بالرغم من التقاء كلاهما على طريق حب الوطن ..
 
ها هو ذلك الصوت الكريه يتمتم داخل رأسي مجدداً أنهم من حولوا أنفسهم إلى مجرد عرائس خشبية يمسك بخيوطها مسوخ تتبع غرائزها المادية وتتحرك تبعا لمصالح نخب سياسية فاسدة، أو مكاسب فئة ليس لها من سبيل لتحقيقها إلا نفاق الحاكم و تخوين منتقديه..
 
ها هو الصوت يردد أنهم هم من حولوا أنفسهم إلى شخوص ثانوية في عرض مسرحي يؤدون فيه أدواراً كتب نصوصها من لا يريدون إلا ضرب وحدتنا و بث روح الفرقة و نشر دعاوى العمالة ضد كل من يحاول تنقيح النص، حتى لو صب ذلك التنقيح في النهاية لمصلحة العرض و زيادة متعة و فائدة كل من يتابعونه !
 
عفواً، أظن أنني أخطات،  فذلك الصوت ليس هو رفيقي الوحيد هنا، فيبدو أن من تعودت رفقته أيضاً هو غضبي من عدم قدرة من وثقت أن لديهم البصيرة النافذة و الرؤية الثاقبة، ممن ظننت أنهم معي على نفس الجانب من المرآة، أن يدركوا أن ما  يدفعني لبذل المزيد من الجهد للتشبث بتلك الحافة الضيقة، التي تفصل بين جدار المرآة و بين هوة اليأس السحيقة، ليس انتمائي لأيديولوجيات جامدة اعتنقوها، و ليس إيماني بسبل لم يجدوا لها من بديل للتغيير، و ليس ولائي لتنظيمات أسسوها ليملأ صخبها جنبات المشهد الوطني .. بل إن ما يجعل أطراف أصابعي أكثر إصراراً على عدم ترك تلك الحافة، و حمل جسدي المثقل بكل همومه و إحباطاته، هو ذلك الإيمان الراسخ الذي لم يفارقني لحظة واحدة أن الوطن يمكنه أن يتسع لتمتد ربوعه على جانبي المرآة.
 
نعم، أعلم أن من يقفون على الجانب الآخر هم من سمحوا للكراهية أن تتسلل إلى قلوبهم تجاهي حين قررت مواجهة  الفساد و القمع و الأحادية و الإقصاء بالرغم من علمي بحتمية اقتران تلك المواجهة بالكثير من الفوضى و التضحيات و الدماء..
 
و لكني أعلم أيضاً أنهم إخوتي الذين شاركوني عشق كل حبة تراب من أرض هذا الوطن و اقتسموا معي كل لحظات الخوف من الحاضر، و القلق من المستقبل، و الغضب من العمالة و التكفير و تجارة الدين، و الألم لإراقة الدماء الزكية، و الفرح حين النصر، والنشوة بإمكانية تحقيق المستحيل، و أنهم يستحقون فرصة أخرى ليثبتوا فيها أنه يمكنهم التخلص من كل تلك الخيوط التي تتحكم بهم، ومن كل سطور ذلك النص العقيم الأصم الذي ظلوا يعيدونه في استسلام و رتابة لأكثر من ثلاثة عقود، ليسمحوا لأنفسهم بإبداع نص جديد يسمح بتقبل النقد البناء، و وجود معارضة وطنية، و قبول رؤية أخرى للمستقبل قد تكون أفضل من تلك التي تطرحها السلطة الحاكمة .. نص تعبر سطوره و كلماته عن طموحاتهم و آمالهم و حقهم في وطن يفخرون به، و مستقبل يرضونه لأبنائهم.
 
ما أخشاه هو أني قد لا أجد الفرصة لمشاركة أحد من الجانب الآخر لتلك الأفكار، فكل ما اختزنته من طاقة للبقاء متعلقاً بتلك الحافة قد بدء في النفاذ، و لن أستطيع على الأرجح التشبث لأكثر من ذلك بذلك الإفريز الضيق، لأسقط في النهاية في قلب تلك الهوة السحيقة بينما بصري متعلق بالسماء الملبدة بالغيوم من فوقي باحثاً عن ذلك الضوء الذي طالما أردته أن يخرج من بينها ليلفت انتباه الجميع للخطر و ليمكن لخيوط شعاعه أن تلتقط جسدي المتهاوي بسرعة قبل لحظة ارتطامه بقاع الهوة ... الذي أشك انه موجود من الأساس !

Thursday, December 3, 2015

شيخ القرية

 إيهاب الشيمي



كعادتي كل صباح، ايقظت حواسي وقع أقدام قرص الشمس و هو يسرع الخطى لكي ينزع شعاعه رداء الظلمة عن تلك القرية الغناء كاشفاً بشرتها الخضراء المخملية الممتدة فوق جسد الوادي الأسمر الخصيب.
أكاد أقسم ان أناملي يمكنها أن تتحسس خيوطه الذهبية الدافئة التي تنطلق بسرعة متناهية لتخترق السطح الكروي الأملس لقطرات الندى البلورية التي ترقد في سكون فوق تلك الأوراق الخضراء لتتلألأ كالأحجار الكريمة.

لا أملك من روعة المشهد إلا أن أستجيب لتوسلات نفسي لكي تفارق ذلك الجسد المحدود للحظات لكي تحلق فوق ذلك البساط المخملي لترى من بعيد كيف تباعدت قسمات البشرة الخضراء في المنتصف لتفسح الطريق للملايين من قطرات الأمطار التي انسابت قادمة من الجنوب في هدوء مهيب ليروي نهرها ظمأ جسد الوادي المتعطش دائماً للمزيد منها ليتحدى بها محاولات الصحراء المستمرة للانقضاض عليه، و لكي يصبغ صفرة رمالها الحارقة بألوان أكثر بهجة و أقل حرارة و قسوة.

و بينما أنا غارق في الرومانسية اللامتناهية التي نشرتها تغريدات الطيور التي بدت و كأنها خرجت مثلي لاستقبال قرص الشمس بمواكبها التي تشق عنان السماء، تهادى إلى مسامعي أصوات حوار خافت قطع سكون المشهد المهيب.. نعم أستطيع تمييز مصدر الصوت .. إنه هناك في أقصى المشهد بالقرب من حافة القرية حيث تدور رحى معركتها الأبدية مع الصحراء..

في الطريق نحو مصدر الصوت، أستطيع مشاهدة العديد من “القصور” المتناثرة فوق البساط المخملي هنا و هناك بالقرب من مجرى النهر، تحيط بها مساحات منسقة شاسعة تعدو فيها خيولاً أصيلة تبدو مملوكة لأصحابها، بينما يمكنني بسهولة تمييز العديد من الأصوات السعيدة لمن هم بداخلها، بل و الاستماع إلى الجلبة التي يحدثها لهو أطفالهم من حولهم حتى كدت أنسى في غمرة انشغالي بمتابعة كل ذلك الترف أن هدفي هو تتبع مصدر ذلك الحوار الخافت، و الذي بدأ يصاحبه تدريجياً صوت أنين مكتوم يتسلل هو الآخر إلى مسامعي كلما اقتربت من وجهتي التي بدت أمامي هناك على مرمى البصر ..

ها أنا ذا وسط مجموعة من “البيوت” التي تكاد تظن للوهلة الولى أنها كتلة واحدة كبيرة من شدة التصاقها ببعضها البعض، و تناهي صغرها حتى تكاد توقن أن قاطنيها يمتلكون أجساداً أكثر نحولاً و أقل حجماً من اجساد أولئك الذين يقطنون تلك “القصور” العظيمة التي مررت بها تواً ..

ها هي مفردات الحوار تتضح شيئاً فشيئاً داخل أحد هذه “البيوت” .. ها أنا ذا اقترب أكثر لأجد أن من أخذت بزمام الحوار شابة نحيلة في العقد الثالث من العمر تمتلك جمالاً هادئاً تداريه كما هو واضح هموم كثيرة .. ها هي تتحدث فرحة عن نجاح مجهوداتها و زوجها وكل "أهل القرية" في زيادة جودة محصول هذا العام و ازدياد العائد منه، بل و عن إمكانية البدء في زراعة محاصيل لم يألفوا زراعتها من قبل في قريتهم، و لكن الحزن الشديد ينقض فجأة على نبراتها لتبث شجونها لتلك "المرأة العجوز" التي تكبرها بنحو أربعة عقود على الأقل لتحدثها عن عجزها و زوجها عن توفير ما يلزم أطفالهما من ملابس و اغطية قبل حلول الشتاء القادم !!

أصابتني بعض الحيرة من ذلك التناقض في حديثها، فكيف بها و زوجها أن يعجزا عما تقول، بينما كانت تصف منذ لحظات وجيزة ازدهار المحصول و زيادة العائد ؟! و لم تعط "المرأة العجوز" للدهشة التي انتابتني الفرصة لكي تستشري في عروقي أكثر من ذلك، فلقد التقطت طرف الحديث من جانبها لتقول لرفيقتها: و الله إني لأتالم لحالكم و حال كل "أهل القرية" يا بنيتي .. ثم زفرت زفرة طويلة كادت أنفاسها الساخنة أن تحرق وجهي لتكمل قائلة: في زماننا كانت "القرية" و ثرواتها ملكاً للجميع، أما اليوم فلقد منح "الكبير" ثقته إلى "الحداد" و رجاله الذين يسكنون "القصور" المتناثرة على حافة النهر ممن سيعينونه على زيادة موارده و استغلال كل بقعة في "القرية" كيفما يتراءى لهم، بينما ترككم و أولادكم تتسولون العمل لديهم ليلقوا لكم في النهاية بفتات ما يكسبون من بيع تلال الغلال و سبائك المعادن التي لم يحصلوا عليها إلا ببذلكم و أولادكم العرق و الدم من أجلها !

كانت كلمات "المرأة العجوز" كافية لأتبين الخطوط العريضة للحوار، و أتخلى و لو بقدر بسيط عن تلك الدهشة التي تملكتني من تناقض حقيقة ازدهار "القرية" و فشل تلك المرأة في الوقت ذاته في توفير احتياجات أبناءها، و لم أكد أنتهي من ربط خيوط الأمور ببعضها حتى انتفضت المرأة الشابة لتهرع إلى غرفة مجاورة ليعود صوت ذلك الأنين ليصطدم بأذني من جديد .. نعم، لقد أصبح أكثر قرباً من أي وقت مضى .. و أكثر وضوحاً .. و أكثر إيلاماً كذلك ..

لم أستطع إلا أن أتتبع خطواتها إلى داخل تلك الغرفة لأجد جسداً ضئيلاً منهكاً لطفل لم يتعد أعوامه الخمسة و قد استلقى على سرير لا تكاد أغطيته تستره، ناهيك عن أن تمنحه الدفء و السكينة !

اندفعت المرأة لتحتضن ذلك “الطفل” في لهفة و ألم و هي تحاول أن تبعث في نفسه الطمأنينة التي تفتقد هي لها.. ها هي تهمس في إذنه في رقة و عذوبة أن آلامه تلك لن تدوم و أن الغد سيجلب له حظاً أقل عثرة .. في التفاتة مفاجئة، نظرت إلى تلك الكومة من الملابس التي اتخذت مكانها على ارضية الغرفة الباردة، و ارتدت على عجل ذلك الثوب الوحيد اللائق للخروج به منها، و حملت طفلها متجهة للباب و هي تخبر العجوز، دون أن تلتفت إليها، أنها ذاهبة بطفلها إلى "شيخ القرية" عسى أن يقرأ له من "الرقيا الشرعية" ما يغنيها عن نفقات العلاج التي يطلبها "الحكيم" في مشفى "الكبير".

لا اشك أنكم تعلمون ما أنا فاعل الآن .. بالفعل اندفعت بشدة خلف الشابة التي خرجت تبحث عن غد أفضل لطفلها قبل أن تغلق الباب و تتركني حبيس ذكريات الماضي مع تلك العجوز. الطريق لا يشبه ذلك الذي مررت به فوق تلك "القصور"، فالدروب أكثر ضيقاً، و أصوات الضحكات أكثر خفوتاً، و الأطفال اقل لهواً،  لكني استطيع طوال الطريق تمييز رائحة الغضب التي تفوح من الأحاديث التي وجدت طريقها إلى أذني عبر نوافذ “البيوت” التي مررنا بها و نحن في طريقنا إلى " شيخ القرية "، فالكل غير راضٍ عما آلت إليه أحوالهم، و كيف استاثر رجال "الحداد" بكل ثروة "القرية" بينما لا يجدوا هم ما يسدوا به جوع اطفالهم أو ما يدفعونه لمداواة من يمرض منهم.

حين وصلنا إلى مقر " شيخ القرية " فاجئتني تلك المساحة الضخمة التي خصصها "أهل القرية" للصلاة بينما يحشرون اجسادهم في تلك "البيوت" الضيقة، و إن ظل المكان على اتساعه بسيطاً بل و متواضعاً مقارنة بحجم صندوق الصدقات الذي تصدر مدخل المكان !!   على الباب وقف ذلك "الشيخ" .. رجل يبلغ الثمانين من العمر، لا يلبس ما يميز الشيوخ من الجلابيب، بل يلبس مما يلبسه "اهل القرية"، و له لحية خفيفة .. بادرها بقوله: مرحباً يا بنيتي و اقبلي عذري عن خفوت الإضاءة لقلة عدد القناديل و نقص الزيت اللازم لها بسبب قلة الصدقات التي استقبلها الصندوق هذا العام، ثم استطرد حديثه داعياً إياها للدخول لرؤية ما يمكنه فعله للتخفيف عن "الطفل".

بدأ " شيخ القرية " تفحص “الطفل” عدة مرات متقمصاً دور الطبيب أكثر منه دور الداعية، ثم وضع كفه على صدر “الطفل” و أخذ يتمتم بكلمات لم أستطع تمييزها، و إن توقعت أن تكون آيات من الذكر، و بينما بدأ صوت أنين “الطفل” في الخفوت، علا في المقابل صوت جلبة يبدو أنها أخذت طريقها مقتربة في سرعة إلى حيث يقطن " شيخ القرية "، و على عكس ما بدا عليه من هدوء و طمانينة حين استقبل المرأة و طفلها،  بدأت أمارات التوتر تأخذ مكانها على صفحة وجهه، ثم أنهى في تسرع واضح ما يتلوه من آيات ليستوضح حقيقة ما يحدث بالخارج.

حين خرجنا، وجدنا "أهل القرية" و قد وقفوا بالباب متذمرين مما يحدث لهم و مطالبين الشيخ بمساندتهم ، و هنا صرخ " شيخ القرية" فيهم بصرامة مذكراً إياهم أن ما يفعلون هو خروج على سنة الله أن يكون الناس درجات بعضها فوق بعض، الغني و الفقير، و القوي و الضعيف، و الحاكم و الرعية، و أن "الكبير" و إن تخلى عنه الصواب في أشياء، إلا أنه مازال "ولي الأمر" الذي يجب له "السمع و الطاعة"، و يكفي أنه قد ضم " شيخ القرية " و بعض أولاده إلى قائمة "مجلس الصفوة" الذي يضم "الحداد" أيضاً لكي ينقل إلى "الكبير" صوت "أهل القرية" و مطالبهم، ,و أن عليهم أن يعودوا لمنازلهم و ينحوا غضبهم جانبا من أجل استقرار "القرية" ، فالله لا يرضيه أن يهلك الزرع و النسل، و "الكبير" مهما حدث فسيظل بمثابة الوالد للجميع!

و وسط أتون الجدل المحتدم، لم تجد المرأة الشابة بداً من مغادرة المكان عائدة إلى دارها قبل أن يداهمها الليل .. طرقت الباب لتفتح لها العجوز هامسة لها الا ترفع صوتها حتى لا يصحو زوجها الذي عاد لتوه منهكا من يوم عمل طويل، فتدخل هي الأخرى لتلقي بجسدها المنهك بجانب طفلها على ذلك السرير لتستغرق في سبات عميق، بينما استغرقت أنا في محاولة فهم لماذا لا أستطيع تقبل " شيخ القرية " بالرغم من ثقة "أهل القرية" الواضحة به ؟!

مع بزوغ "الفجر"، ينتفض كل من في البيت على ذلك الصوت الهادر لوقع آلاف الأقدام التي تنهب الأرض في خطىً مسرعة حاملة "أهل القرية" إلى حيث بيت "الكبير" لإجباره على الانصياع لمطالبهم، و الاستماع لصوتهم، و منحهم القدر العادل من ثروة "القرية" التي يستحقونها لقاء ما يبذلونه من جهد و عرق .. و بينما خرجت لأتتبع خطاهم، استوقفني ذلك التناقض الغريب الذي لم أستطع فهم فحواه، فلقد وقف " شيخ القرية " ليعلن بأعلى صوته أمام الجميع أنه على موقفه من أنه لن ينضم إلى "أهل القرية" في التوجه لبيت "الكبير"، بينما استطعت أن الحظه و هو ينحنى ليقول بصوت خافت لبعض أتباعه أنه لن يمنع من يريد الانضمام منهم إلى "أهل القرية"، على ان يتحمل كل منهم عاقبة أمره !

في صباح اليوم التالي، كان جسدي مازال قابعاً هناك منتظرا نفسي لكي تعود إليه لكي يستقبلا معاً قرص الشمس من جديد، و لكنها لم تعد، فلقد وقفت هناك في الأعلى تراقب "القرية" التي طالما عشقتها و قد عزل أهلها "الكبير" الذي طالما صم أذنيه عن الاستماع لهم، و تشاهد "الحداد" و رجال "مجلس الصفوة" و "أهل القرية"  يقتادونهم إلى "الحصن" حيث سيتم احتجازهم لحين البت في أمرهم.
لكن المشهد الأشد جذباً للانتباه، كان مشهد تلك الربوة التي تتوسط "القري" و التي يقف عليها رجل لم أستطع تبين ملامحه من موقعي و هو يخطب في الناس قائلاً: إن ما حدث كان أمراً محتوماً، فالله "يمهل و لا يهمل"، و "الكبير" و "الحداد" و "مجلس الصفوة" علوا في الأرض، و كان السكوت عليهم إثماً، و أصبح الخروج عليهم واجباً، و أنه كان حقاً على الله أن ينصر "أهل القرية المؤمنين"، و أنه سيعمل قدر جهده لكي ينفق "ما آتاه الله"  لينشر "الحرية و العدالة" في ربوع "القرية".
اقتربت أكثر من الربوة لأتبين ملامح الرجل، فطوال مكوثي بين "أهل القرية" لا أذكر أنه كان هناك من تبنى مطالبهم لكي يجرؤ أحدهم الآن و يعتلي منصة خطابتهم و يمنح نفسه حق قيادتهم !! .. ها أنا ذا اقترب أكثر فأكثر من الرجل .. ها هي ملامحه تتضح شيئا فشيئاً .. رجل يبلغ الثمانين من العمر، يلبس مما يلبسه "اهل القرية"، و له لحية خفيفة .. نعم إنه هو .. من لم أقتنع بصلاحه من البداية رغم ثقة الجميع ..

Tuesday, December 1, 2015

قطر .. أكذوبة المصالحة و خداع المصافحة

إيهاب الشيمي

 
"قالوا للحرامي إحلف .. قال جالك الفرج"  !!

هذا تماماً هو المثل الذي ينطبق في نظري على موقف القائمين على الأمور في قطر من مسألة إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح بشأن علاقتهم مع مصر، و قبلها مع المملكة العربية السعودية، و الإمارات العربية المتحدة، و الكويت، و البحرين.

فليس أسهل من التوقيع على المعاهدات، سوى التصريح بالالتزام بتنفيذها، حتى يتم الانتهاء من إعادة ترتيب الأوراق و التقاط الأنفاس لمعاودة الهجوم من جديد في ظروف أفضل، و بتقدير أقل للخسائر المتوقعة حتى تحقيق الهدف، و الوفاء بالالتزامات تجاه شركاء مخطط تفتيت المنطقة.

فمواقف الأنظمة و خططها الاستراتيجة و علاقاتها المتشابكة بداية من أصغر صحفي مرتزق و نهاية بالقوى الامبريالية الكبرى لا يتم التخلي عنها بين ليلة و ضحاها كما قد يتوهم بعض، و قطر ليست ذلك العدو ذو الجسد الضئيل  الذي ينحني خوفاً تحت العجلات الحربية التي يقودها القائد الفرعوني "أحمس" بينما تصوره لوحة جدارية و هو يهم بقتل ذلك العدو برمحه الفولاذي اللامع كما يحلو للبعض أن يصور العلاقة بين الطرفين ممن أخذت بهم السذاجة و السطحية كل مأخذ، فتوهم أن قطر بعد إغلاق فضائية "الجزيرة مباشر مصر" ستقدم التنازلات واحدة تلو الآخرى دون مقابل، أو دون أن يكون ذلك مجرد غطاء لما هو أخطر. 

و لكي تصل بنفسك لإجابة حول مدى جدية حكام قطر في العودة للحظيرة العربية و الكف عن كل ما يقومون به من أفعال تؤرق مضاجع الجميع، فدعني أسرد عليك الأمر من البداية لكي تعرف أصل الحكاية..

في يونيو من عام 1995 أعلن حمد بن خليفة آل ثاني وزير الدفاع و ولي العهد القطري عزل والده خليفة بن حمد أمير البلاد و تنصيب نفسه أميراً عليها في انقلاب أبيض مفاجئ أثناء وجود الأمير الوالد خارج البلاد، و استعان على ذلك لضمان  استتباب الحكم له، بمساعدة حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني ليكون الذراع الأيمن له في السيطرة على مقاليد الحكم، و كبح جماح اي محاولة داخل الأسرة الحاكمة لمعارضة ذلك الانقلاب و محاولة إعادة والده للحكم مرة أخرى، و عينه وزيراً للخارجية و فوض له الكثير من أمور الحكم و رسم الخطوط العريضة السياسات الخارجية للإمارة.

و يبدو أن الشريكين كانوا على عجلة من أمرهم لتنفيذ التزاماتهم تجاه شريكهم الخفي و من سيقوم بحمايتهم ضد تدخل  دول عربية و خليجية كبرى ترفض الانقلاب على الشيخ خليفة مثل السعودية، و الإمارات، و مصر. ففي أعقاب تولي حمد بن خليفة للحكم بثلاثة أشهر فقط، و في سبتمبر 1995 وصل الكولونيل تشارلي سميذرز ليمهد لانشاء قيادة الجيش الأمريكي المركزية في الشرق الأوسط على الأراضي القطرية، و تبع هذه الزيارة بسبعة أشهر فقط قيام رئيس الوزراء الإسرائيلي "شيمون بيريز" بزيارة قطر في أبريل 1996، ثم افتتاح بورصة الغاز القطرية في تل أبيب و إبرام صفقة بيع الغاز لها و افتتاح مكتب لرعاية المصالح الإسرائيلية في الدوحة، ثم تم إطلاق قناة "الجزيرة" الفضائية في نوفمبر من نفس العام بمنحة من حمد بن خليفة بلغت 150 مليون ريال في تسلسل للأحداث لا يمكن إغفال معانيه و تبعاته، و في سيناريو يوضح كيف أن "حمد" و شريكه "حمد" قررا الخروج من عباءة الإمارة الصغيرة التابعة لشقيقتها الكبرى، ليكونوا "نجوم الشباك" في عروض الولايات المتحدة المرتقبة في المنطقة، و لكي يكونا فرسي الرهان لدى واشنطن حين يتعلق الأمر بشركاء يمكن الاعتماد عليهم لتمرير خططها لشرق أوسط جديد.

خلال الفترة من 1996 و حتى 1999  كان لمكتب رعاية المصالح دوراً كبيرا في تذليل كل الصعاب التي واجهت تطوير العلاقات مع إسرائيل، و تم الحصول من الأمير شخصياً على ضمانات و تسهيلات من مسئولين و شركات قطرية كبرى. كما أن الدوحة لعبت دوراً كبيراً في فتح العلاقات التجارية بين دول المغرب العربي و إسرائيل، بدعوى تحقيق شروط "مؤتمر مدريد للسلام"، و كذلك أقنعت دول مجلس التعاون الخليجي، بحجة "مدريد" أيضاً، بإعلان وقف المقاطعة الاقتصادية غير المباشرة المفروضة على الشركات العاملة في إسرائيل أو معها، وتلت ذلك إقامة علاقات بين إسرائيل وهيئات ومؤسسات وشركات خليجية مثل طيران الخليج، والخطوط الجوية القطرية، وغيرها من الشركات التي خففت من القيود المفروضة على المسافرين والمؤن الآتية من إسرائيل إلى الدول العربية بمساعدة قطرية.

التحول الأكبر في ظهور قطر كدولة لها ثقلها السياسي و الاستراتيجي و دورها المحوري في المنطقة انطلاقاً من علاقاتها بالولايات المتحدة في مواجهة الدور التقليدي للمملكة العربية السعودية و مصر، كان  في عام 2003، حيث اعلنت الولايات المتحدة الأمريكية عن نقل مركز العمليات الجوية القتالية الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط من "قاعدة الأمير سلطان الجوية" في المملكة العربية السعودية إلى "قاعدة العديد" الجوية في قطر جنوب الدوحة، كما تم نقل المقر الميداني للقيادة العسكرية المركزية للمنطقة الوسطى للقوات المسلحة الأمريكية و الممتدة من آسيا الوسطى إلى وسط إفريقيا إلى قاعدة "السيلية" القطرية، و التي أصبحت أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في المنطقة، و كانت المركز الرئيسي لإدارة الحرب على العراق في عام 2003، كما استخدمت أيضا في الحرب على أفغانستان، بل و مركزا رئيسياً لنقل شحنات القنابل الذكية التي استعملت في قصف إسرائيل للبنان في 2006عام ، و المخزن الاستراتيجي الرئيسي لإسرائيل عندما نفدت صواريخها في حربها على غزة في عام 2009.

و قد تسأل عزيزي القارئ .. لماذا قطر؟!

و الإجابة لن تكون لكونها دولة صغيرة، فقيمة الدول حالياً لا تقاس بمساحتها الجغرافية، بل إن الجواب يكمن في أن حكامها الجدد يسهل إملاء الشروط عليهم، مقابل منحهم النفوذ الذي يفتقدونه و يسعون إليه داخلياً و خارجياً، و هو ما يتوافر لدى قطر، و لا يمكن تحقيقه بالتأكيد من خلال الحليف التقليدي و التاريخي المتمثل في المملكة العربية السعودية.

و لكن كيف ستنفذ قطر خطط شريكتها الكبرى في المنطقة، و كيف سيسكت الجميع عن كل تلك الحقائق المزعجة التي أوردناها؟

و الجواب من كلمتين: "الجزيرة" .. و "الاسلام السياسي"

فقناة الجزيرة كان لها الدور الرئيسي في التغطية على كل تلك الحقائق، من خلال التركيز على عيوب و مشاكل الدول الأخرى، و إبراز حكام قطر الجدد بمظهر المدافعين عن الحريات و الديمقراطية و حقوق الانسان، بل و لا مانع من إفراد مساحات كبيرة لمهاجمة الولايات المتحدة و إسرائيل بحيث ينشغل الجميع عن حقيقة الدور القطري في تمرير خططهم بالمنطقة.

و لإضفاء مزيد من الشرعية على المخطط، بل و على استقرار الحكم لهم في الدوحة فلقد كان من الواجب على الحكام الجدد استقطاب أبواق تمنحهم الشرعية اللازمة سواء لاستمرارهم في الحكم، أو لمساعدتهم على استكمال المخطط الذي تعهدوا بتنفيذه لصالح الولايات المتحدة.

و من هنا عزيزي القارئ يمكنك تفهم العلاقة الوثيقة بين حكام قطر و جماعات "الاسلام السياسي" و على رأسها "جماعة الإخوان المسلمين"، فوجود قيادات الجماعة أمثال "القرضاوي" في قطر منذ الستينيات و حصول معظمهم على الجنسية القطرية، يجعلهم الخيار الأمثل لتحقيق الغرضين: غرض أن يكونوا ابواقاً للنظام يضفون عليه الشرعية في الداخل و في المحيط الإقليمي، و الغرض الأهم و هو نشر أيديولوجية  تزاوج الدين بالسلطة لتحقيق التمكين لهم و لسادتهم من خلف الكواليس.

و بالفعل، فلقد جاء التحول الجذري و الدراماتيكي الذي خلقته ثورات الربيع العربي في المشهد، ليجعل من الجماعة بمثابة البيضة الذهبية لكل من حكام قطر و حليفتها الكبرى، فالجماعة بامتداها في كل الأقطار العربية ستوفر انتشاراً فعالاً، و تضمن تنفيذاً سريعاً للمخطط لا يمكن لأي تنظيم آخر توفيره، ناهيك عن كون فكر الجماعة مرتعاً خصباً لخلق ما تريده الولايات المتحدة من تنظيمات فرعية متشددة، و أذرع و ميليشيات مسلحة تمنحها ما تشتهيه من فوضى تتمكن من خلالها من إعادة رسم خارطة المنطقة، و الاستيلاء على ما تبقى فيها من موارد.

و لا أخفيكم سراً، ففكرة الانقضاض على الثورات تبدو أكثر جاذبية و أقل دموية و اكثر قبولاً في أمريكاٍ، و تعطي المخطط نكهة لم تمنحها له الحرب التي ورطوا فيها صدام ضد الكويت و التي تمكنوا بعدها من بناء قواعدهم في الخليج، أو تلك الحرب التي مهد لها صنيعتهم بن لادن في أفغانستان و التي تمكنوا بعدها من بناء قواعدهم في آسيا الوسطى،  أو تلك المعارك التي تشعلها حماس و حزب الله في فلسطين و لبنان من آن لآخر لتفجير المنطقة برمتها!

و من هنا زاد دعم حكام قطر و احتضانهم لجماعة "الإخوان المسلمين" و الأحزاب المنبثقة عنها في مصر و تونس و ليبيا و اليمن و سوريا، و كذلك دعمهم لنسلها من تنظيمات "القاعدة"، و "حماس"، و "جبهة النصرة"، و "داعش"، و "ميليشيات فجر ليبيا"، التي ظهرت في البداية من خلال شاشة "الجزيرة" كحركات مقاومة إسلامية جهادية ضد قوى الاحتلال و الاستبداد و القمع، ثم لم تلبث أن ظهر وجهها الحقيقي كأذرع سياسية راديكالية و عسكرية لقوى الإسلام السياسي الساعية للوصول إلى السلطة في تلك الدول من خلال فرض حكمها بقوة السلاح و الدم و التكفير و الإرهاب الفكري و الديني و الجسدي.

ما زاد المشهد تعقيداً، هو أن الأمور انقلبت رأساً على عقب داخل الدائرة الصغيرة للحكم في قطر، فطموح "حمد بن جاسم" هو كرسي الإمارة و ليس فقط رئاسة الوزراء التي منحه إياها "حمد بن خليفة"، و هو يرى أنه بكل ما يملك من نفوذ داخل الأسرة الحاكمة، و كل ما أسسه من علاقات خارجية، الأجدر بالحكم في حال تدهورت صحة الأمير.

لكن فشل بن جاسم في إقناع السعودية و دول الخليج بالاستمرار في دعم الميليشيات المتشددة ضد نظام الأسد في سوريا، و هو ما أدى لإجبار أمريكا و تركيا على الانصياع لطلب السعودية و حليفاتها بقتال داعش في منعطف لم يكن في حسبانهما، و فشل الإخوان في مصر بالرغم من كل ما قدمه بن جاسم من دعم لهم زاد عن الثمانية مليارات دولار ناهيك عن الدعم الإعلامي الغير مسبوق، و تداعيات تفجير فضيحة ابنته في لندن على يد موالين للأمير نفسه كما يتم تناقل الأمر، كل ذلك أجبر"بن جاسم" على التخلي عن طموحه، و كان لزاماً على "حمد بن خليفة" أن يتحرك سريعاً لضمان بقاء الحكم محصوراً في نسله و أن يستبق أي محاولة من الأسرة لفرض اسم من غير أبناءه، و هو ما فعله بإعلانه تنازله عن الحكم لولده "تميم"، بالرغم من أنه ليس الابن الأكبر له، و لكنه في الوقت ذاته الأقرب لجماعة الإخوان المسلمين و قياداتهم و فكرهم، و الأكثر دراية بشئون الدفاع و العلاقات مع الولايات المتحدة، و هو كذلك الابن الأكبر للشيخة موزة بنت ناصر المسند التي تضمن بتوليه الحكم بقاءها في دائرة الضوء بالرغم من عدم انتمائها لعائلة آل ثاني التي تنتمي إليها زوجتي "حمد بن خليفة" الأخريات.

في النهاية عزيزي القارئ، و بعد أن علمت كيف أن بقاء حكام قطر مرتبط و بشدة بتنفيذ أجندات الولايات المتحدة، و بوجود الإخوان المسلمين، و باستمرار الفوضى، فأظن أنك الآن تعلم كيف سيكون التزامهم بالمصالحة مع مصر .. أما الحديث عن تسليم "القرضاوي"، و طرد مذيعي "الجزيرة"، و تجميد أموال "الإخوان المسلمين" في قطر و مصادرتها لصالح مصر، و وساطة قطر للصلح بين أنقرة و القاهرة والرياض و كل ما يتم ترويجه من شائعات حول تحول الجميع فجاة إلى ملائكة رحمة فلا يستحق الالتفات إليه من الأساس !

حفظ الله مصر و شعبها .. و جعل كيد أعدائها في نحورهم.

تم نشر المقال الأصلي في روزاليوسف المصرية بتاريخ 29 ديسمبر 2014