Saturday, July 23, 2016

شرعية الثورة .. بين يوليو و يونيو !



بقلم: إيهاب الشيمي

" اجتازت مصر فترة عصبية في تاريخها الأخير من الرشوة والفساد وعدم استقرار الحكم، وقد كان لكل هذه العوامل تأثير كبير على الجيش، وتسبب المرتشون والمغرضون في هزيمتنا في حرب فلسطين، وأما فترة ما بعد هذه الحرب فقد تضافرت فيها عوامل الفساد وتآمر الخونة على الجيش، وتولى أمرهم إما جاهل أو خائن أو فاسد، حتى تصبح مصر بلا جيش يحميها، وعلى ذلك فقد قمنا بتطهير أنفسنا وتولى أمرنا في داخل الجيش رجال نثق في قدرتهم وفي خلقهم وفي وطنيتهم"

بهذه الكلمات التي ألقاها أنور السادات على مسامع الشعب المصري دخلت مصر حقبة جديدة في تاريخها الحديث بدأت يوم الثالث و العشرين من يوليو عام 1952

حقبة الاستقلال التام عن أي سلطة احتلال أو أي سلطة حاكمة تسلم بالتبعية لها و تقبل باستقلال منقوص مقابل بقائها على كرسي العرش على رأس حكومات كرتونية تتداول السلطة فيما بينها بالتناوب بناءاً على أوامر القصر، و برلمان صوري يتحكم به الإقطاعيون.

و لكي تعرف عزيزي القارئ كيف كان استقلال مصر منقوصاً، و كيف كانت أرضها و سماءها و جيشها مسخرين جميعاً لخدمة الامبراطورية البريطانية، فعليك أن تعرف أن مصر كان يتم إدارتها طبقاً لمعاهدة 1936 مع الانجليز، و التي كان من ضمن بنودها ما يلي:

- انتقال القوات العسكرية البريطانية من المدن المصرية إلى منطقة قناة السويس وبقاء الجنود البريطانيين بلا قيد أو شرط.
- تحديد عدد القوات البريطانية  في مصر بحيث لا يزيد عن 10 آلاف جندي و400 طيار مع الموظفين اللازمين لأعمالهم الإدارية والفنية وذلك وقت السلم فقط، أما حالة الحرب فلبريطانيا العظمى الحق في الزيادة دون الرجوع للحكومة المصرية .
- تقوم مصر ببناء الثكنات وفقا لأحدث النظم حتى ينتقل إليها الجنود البريطانيين.
- تبقى القوات البريطانية في الإسكندرية.
- تظل القوات البريطانية الجوية في معسكرها في منطقة القنال ومن حقها التحليق في السماء المصرية
- في حالة الحرب تلتزم الحكومة المصرية بتقديم كل التسهيلات والمساعدات للقوات البريطانية وللبريطانيين حق استخدام مواني مصر ومطاراتها وطرق المواصلات بها بلا قيد أو شرط.
- بعد مرور 20 عام من التنفيذ للمعاهدة يبحث الطرفان فيما إذا كان وجود القوات البريطانية ضروريا بناءاً على قدرة الجيش المصري على تأمين حرية الملاحة في قناة السويس وسلامتها فإذا قام خلاف بينهما فيتم اللجوء لعصبة الأمم.
- حرية مصر في عقد المعاهدات السياسية مع الدول الأجنبية بشرط إلا تتعارض مع أحكام هذه المعاهدة و مصالح بريطانيا العظمى.

أعلم أن الكثيرين لا يعلمون شيئاً عن تلك المعاهدة، و أعلم أيضاً أن كثيرين غيرهم، ممن أدمنوا تشويه كفاح هذا الشعب العظيم، يصرون على أن ثورة يوليو لم تجلب سوى الفقر و تراجع الدخل القومي و تراكم الديون متناسين في ذلك، عمداً أو جهلاً أو انسياقاً وراء أبواق الاستعمار و الإمبريالية العالمية، غياب دخل قناة السويس نتيجة سيطرة فرنسا و بريطانيا عليها قبل التأميم، و إغلاقها أمام الملاحة لفترات طويلة في أعقاب التأميم نتيجة للعدوان الثلاثي ثم العدوان الإسرائيلي المدعوم من القوى الغربية، و كذلك تجاهلهم عمداً للحصار الاقتصادي الغربي لمصر و الذي استمر لما بعد إبرام معاهدة السلام بعد قيام يوليو بما يزيد على عقدين من الزمن، و أخيراً انعدام عائدات البترول في سيناء و خليج السويس و العقبة للأسباب ذاتها !

أعلم جيداً أيضاً ان الكثيرين ممن لا يرون من الوطن سوى عيوبه و من كفاح الشعب سوى سقطات بعض من حادوا عن طريقه القويم، يتجاهلون عمداً أن المصريين حققوا  في عهد عبد الناصر معدلات نمو اقتصاديٍ غير مسبوقة وغير ملحوقة حتى الآن ببناء السد العالي و أكثر من 1200 مصنع للصناعات الثقيلة و التحويلية، و إنشاء المدارس و الجامعات، و مراكز الأبحاث، كما توسعوا زراعياً خارج الوادي الضيق بشكل غير مسبوق و حققوا أعلى معدلات لإنتاج المحاصيل الزراعية في أراضي الوادي القديمة، كما أسهموا بشكل فاعل في أوسع عملية للحراك الاجتماعى فى مصر عبر تاريخها من خلال إتاحة مجانية التعليم و تكافؤ الفرص بين الأغنياء والفقراء. و دعني أفاجئك عزيزي القارئ حين أقول لك أن ذلك تم بتكلفة تجاوزت ما قيمته تريليون و نصف دولار أمريكي بتقديرات البنك الدولي حالياً، و بقيمة أصول ثابتة للقطاع العام تجاوزت ما قيمه نصف تريليون دولار أمريكي طبقاً لنفس التقديرات !

و ضمن نفس السياق، فإن من يجهلون قيمة يوليو، و يحقدون على إنجاز الشعب المصري فيها ليحصروه في صورة انقلاب عسكري، يتجاهلون أن حجم ديون مصر بالرغم من كل تلك الظروف المضادة لإقامة اقتصاد وطني مستقل، و كل تلك الأموال التي تم إنفاقها لبناء تلك البنية الاقتصادية التحتية العملاقة، لم تتجاوز يوم وفاة عبد الناصر  المليار و ربع المليار دولار فقط في صورة ديون قصيرة الأمد ليست استهلاكية أو لسداد عجز في الموازنة و لكن لمشروعات انتاجية يتم تسديد الدين من عوائدها.

لن أسترسل أكثر من ذلك في بيان حقيقة إسهام ثورة يوليو في بناء مصر الحديثة المستقلة ذات الثقل الإقليمي و الدولي، و كيف أنها أشعلت شرارة ثورات الحرية في العالم أجمع لتشمل إفريقيا، و أمريكا الجنوبية، و آسيا، فالمجال هنا لا يتسع لذلك، و لكني أريد أن ألقي الضوء على من يناقضون أنفسهم، و يدعون الانتماء لثورات شعبية عظيمة تلت يوليو في يناير 2011 و يونيو 2013 ممن دفعتهم مصالحهم الآنية، و توازناتهم السياسية لادعاء فساد ‫‏يوليو و الترويج لأكذوبة شرعية ‫‏الملك !

و لا أدري كيف لمن خرج في يناير ضد فساد نظام مبارك و تبعيته السياسية للقوى الغربية الكبرى على حساب مصالح الوطن العليا، و استئثار حاشيته و حزبه بموارد البلاد، أن يهاجم يوليو و يصفها بالمغامرة التي قام منفذوها باقتسام كعكة مصر،بينما قامت لنفس الأسباب التي قامت من أجلها يناير مع اختلاف التفاصيل.

كيف لهؤلاء أن ينكروا معاناة مصر و استعباد شعبها و استباحة أراضيها و ثرواتها لصالح أسرة محمد علي و الانجليز ؟!

كيف لهم ان تعمى بصائرهم فلا يروا من يوليو سوى فساد عامر و مراكز القوى، و لا من أكتوبر سوى التبعية لأمريكا، و لا من يناير سوى تآمر الإخوان على الوطن  !

إن من ينكرون حتمية قيام ثورة يوليو و إسقاط حكم الأسرة العلوية بحجة فساد بعض من قاموا بثورة يوليو من الضباط الأحرار أو من انضموا لهم فيما بعد، هم كمن ينفي حتمية ثورة يناير و ينزع عنها غطاء الشرعية و ثوب النقاء لمجرد أن الإخوان المسلمين و بعض جماعات المصالح تآمروا عليها لصالح سادتهم و حلفائهم  في الخارج لتنفيذ مخطط الفوضى الشاملة.

و كلاهما لا يقل سفاهةً عمن يصف يونيو بالانقلاب ضد الديمقراطية، ليحصر الشرعية في صندوق الانتخاب، و يتجاهل أن ذلك الصندوق ما هو إلا مجرد أداة للعمل من أجل الشعب و ليس ضده، و أن قدسيته تسقط بخيانة من تولى الحكم لأمانة الحفاظ على وحدة الوطن و ضمان العدل و المساواة بين كل أبنائه !

لم يبق لي في النهاية سوى أن أذكر الجميع هنا، أنه رضينا أم أبينا، فإنه بدايةً بعرابي و انتهاءاً بالسيسي، فإن حركات التحرر الوطني قادها رجال من الجيش المصري، و هو شئ لا يعيب تلك المؤسسة المصرية العريقة، بقدر ما يعيب و بشدة التيارات المدنية التي لا تتقن حتى يومنا هذا سوى الحديث و الحديث فقط دون طرح حلول حقيقية، أو كيانات سياسية فاعلة يمكنها منح الفرصة للمشاركة السياسية الفاعلة و حرية الاختيار للمواطن المصري في كافة ربوع الوطن بعيداً عن الاتفاقات السرية في سراي الحكم، أو المصالح الشخصية لقادة و رؤساء الأحزاب الذين لا يتقنون سوى اختيار أجود أنواع التبغ التي  يدخنونها في صالونات الأحزاب، و فنادق القاهرة الفارهة !

‫‏إن من ينكرون حتمية الثورة و يتجاهلون الحراك الوطني المصري عليهم أن يدركوا أن الثورة لم تبدأ في يناير و لم تنته في يونيو، فالحراك الوطني بدأه عرابي، و استمر مع ناصر، مروراً بمصطفى كامل و سعد زغلول .. فكلما فسد الحاكم انتفضت الأمة، و سينجب الوادي دوماً من يثور من أجل مصر !

عاشت مصر حرة مستقلة.