Friday, November 4, 2016

الدولة الأبوية.. و الطفل الأخرق !

إيهاب الشيمي
لن أتحدث هنا، كما قد يتوقع البعض، عن موظفي الحكومة " التنابلة " الذين لا يفعلون شيئاً سوى انتظار العلاوة و انتقاد قانون الخدمة المدنية لما فيه من ربط الأجر بالأداء، بينما لا يقدمون هم أي إسهام فعلي نحو تقدم الوطن ..
و لن أتحدث أيضاً عن الطبقة الكادحة التي تشكو من عدم قدرتها على شراء الطعام لأبنائها بينما ينفق أرباب اسرها مئات الجنيهات على السجائر و مكالمات المحمول بحجة تفريغ الغضب و شحنات الكبت !

بل أنا هنا من اجل أن أخاطبك أنت ! 
أنت يا من لك القدرة على امتلاك حساب فيسبوك و تويتر و انستجرام بينما تملأ الدنيا ضجيجاً و صراخاً و عويلاً عن معاناتك و كيف أن البلد أصبحت جحيماً لا يطاق ..
و أحب أن أبدأ حديثي بأن أقول لك في برود أيها الزعيم الفيسبوكي التويتري أن ما يعانيه بقية الشعب ممن لا يملكون رفاهية الحديث على وسائل التواصل الاجتماعي " زي حضرتك كدة" هو بسبب ما تفعله أنت !
نعم .. أنت من تبدد احتياطي النقد الأجنبي و أنت من تسبب عجز الموازنة ..
و لن أنتظر منك أن تسألني في غضب " و إزاي بقى أنا السبب يا استاذ ؟!!" .. فسأجيب على سؤالك قبل أن تتفوه به ..
الهواتف المحمولة التي تتفاخر بامتلاك الأحدث منها أنت و أمثالك و لا تستخدموها سوى في التنافس في الألعاب أو في حوارات الواتساب السفسطائية نستوردها بالدولار ..
السيارات التي تبدلها كل حين و آخر أنت و أمثالك لا لشئ إلا لترضي إحساسك المريض بأنك الأفضل على الطريق نستوردها بالدولار !

سيارات الدفع الرباعي التي تملأ الطرقات و تسد الشوارع بينما أقصى استخدام لها هو السير على أسفلت مارينا أو مراسي في الساحل الشمالي في الصيف .. نستوردها أيضاً بالدولار و تحرق أضعاف كمية الوقود الذي تتحمل الدولة عبء دعمه أيضاً !

كل تلك " الاوتينجس" و " الخروجات" أو أياً كان ما تحب أن تسميها، التي لا طائل منها سوى أن تقضي وقت ظريف بعد خروجك من العمل و سحب بضعة أنفاس من "الشيشة الفواكه الفاخرة" بحجة أنك اقلعت عن تدخين السجائر، و وضع تعليقات "كول" على صورك أنت و رفاقك و "مززك" بعدها على الانستجرام .. تستخدم فيها سيارتك التي تحرق البنزين الذي تدعمه الدولة و تدفع ثمن استخراجه و توريده للشركات الأجنبية بالدولار ايضاً !

تلك السيجارة الاليكترونية الحمقاء التي أقنعت نفسك أنها بديل صحي للسجائر، نستوردها بالدولار و نستورد سائلها بالدولار، و نستورد بطاريتها الليثيوم طويلة العمر بالدولار .. 

ماكينة النسبريسو التي تتفاخر بوجودها في مكتبك مع أفضل نكهات كبسولات القهوة بدلاً من " البن التعبان بتاع البوفيه" نستوردها ايضاً بالدولار !

" الشاليهات " التي تملأ الدنيا بكاءاً و عويلاً أنك تقترض " يا حرام " من أجل سداد أقساطها   بينما لا نسمع لك صوتاً حين تقوم بتأجيرها لتجلب لك أضعاف ما دفعته فيها .. كل هذه تقوم الدولة بتحمل نفقات البنية التحتية من كهرباء و مياه و صرف و طرق من أجل أن تتمكن و أمثالك من الانتفاع بها و تقضية اسبوعين أو ثلاثة في الصيف بها بينما تظل مهجورة طوال االعام !

العلامات التجارية و "البراندات" التي تسعى لشرائها دائماً حين يتعلق الأمر بملابسك و مقتنياتك الجلدية بل و أزرار قميصك لتتفاخر بها أمام الجميع .. كلها نستوردها بالدولار أو يدفع وكيلها قيمة استغلال علامتها التجارية ايضاً بالدولار!

ما يثير السخرية أنك و أمثالك تصرخون و تنتقدون بينما لا تقدمون الحلول .. لأنكم ببساطة لم تكلفوا انفسكم وسط قراءتكم للتعليقات السخيفة و الساخرة على حساباتكم الاجتماعية، و وسط مشاهدتكم لمقاطع الفيديو الكوميدية أو الساخنة،  و في غمرة انغماسكم الشديد في متابعة الجديد من حلقات " جيم أوف ثرونز" لم تكلفوا أنفسكم أن تقرأوا خبراً سياسياً حول ما يحدث من حولنا و تأثير ذلك على مصر، و لم تحمل نفسك عناء الاستماع لتحليل اقتصادي على بلومبيرج أو سي ان بي سي أو سكاي نيوز أو حتى النيل للأخبار عن تداعيات أزمة أسعار الوقود العالمية و تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي، أو ضم اليوان الصيني لسلة عملات صندوق النقد الدولي، أو حتى أن تتعرف على بنود مشروع الموازنة العامة للدولة !

و ما يثير السخرية أيضاً أنك و أمثالك تساوون أنفسكم بالطبقات التي تعاني بسبب ما تفعلونه انتم من ضغط متواصل على موارد الدولة و استنزاف لاحتياطياتها النقدية و تبديد للدعم الذي توجهه بالأساس لمحدودي الدخل !

و أكاد أسمع هنا صوت أحدهم و هو يقول بغضب: " و انت مالك ؟ دي فلوسي و أنا حر فيها .. !"
و لهذا الغاضب أقول أيضاً: " لا .. ليست أموالك .. و لست حراً في إهدارها !"
فبحسبة بسيطة و باحتساب السعر القديم للدولار أمام الجنيه و هو تسعة جنيهات تقريباً
ستجد أن متوسط سعر لتر البنزين حول العالم هو دولاراً و نصف، أي ما يعادل ثلاثة عشر جنيهاً و نصف تقريباً و هو ما يعني أن الحكومة تتحمل في اللتر الواحد ما قيمته 10 جنيهات مقارنةً بما كان من المفترض أن تجنيه لو باعت اللتر بالسعر العالمي !
و هكذا، و بافتراض أنك تستخدم 40 لتراً أسبوعياً، أي 160 لتراً تقريباً شهرياً، فذاك يعني أن الموازنة العامة تدعمك بما قيمته 1600 جنيها شهرياً أو ما قيمته 19200 جنيها سنوياً ..
و لاستكمال حساباتي المتواضعة، فسأفترض أيضاً أن لديك سيارة واحدة لك و أخرى لزوجتك لتقوم بقضاء حاجياتها بها أو لتوصيل الأبناء لمدارسهم أو للنادي في حال كان الحال ميسوراً .. و ذلك يعني أن ما تتحمله الموازنة نيابة عنك هو 38400 جنيهاً سنوياً لبند دعم الوقود فقط !


و لو افترضنا جدلاً أن هناك 200 ألف أسرة فقط تنطبق عليها نفس المواصفات  فسيصبح حجم دعم الوقود الممنوح لكم  وحدكم هو 8 مليار جنيهاً مصرياً ..
و يمكنك هنا أن تضيف نفس الرقم تقريباً كدعم للكهرباء، و مثله للغاز ليتجاوز المجموع بالرغم من كل التحفظات ما قيمته 24 مليار جنيهاً سنوياً أدفعها أنا و كل دافعي الضرائب لكي تستمتع بها أنت أيها الغاضب كثير الشكوى !


قد يبدو لك الرقم كبيراً أو أني بالغت في التقدير، و لكن عليك أن تدرك أن حجم الدعم على اختلاف أنواعه في الموازنة العامة قبل تحرير سعر الصرف كان 206 ملياراً و سيقترب الآن من النصف تريليون جنيه باحتساب سعر الصرف الجديد !


نعم .. لا أنكر أن الحكومة مازال أمامها الكثير لتفعله لمحاربة الفساد و تشديد الرقابة و فرض القانون و تحصيل الضرائب من أباطرة الصناعة و إعادة هيكلة الدعم ليصل لمن يستحقونه فعلاً .. و لكن ذلك وحده لن يقضي على كل ما نمر به من عبث و فوضى اقتصادية و اجتماعية !

سينتهي كل هذا الهراء و كل ذلك العبث و ستتقدم مصر اقتصادياً و اجتماعياً و ثقافياً حين تكف أنت و أمثالك عن تلك الممارسات، و حين تتحمل أعباءك و تقرر أن تخرج من دائرة الأنانية ..

سينتهي كل هذا العبث حين يتم نسف مفهوم " الدولة الأبوية " التي تتحمل من موازنتها و من مواردها ثمن رفاهيتك و كسلك و جهلك و قلة وعيك بتداعيات ما تفعله أنت، و بتداعيات ما يحدث من حولنا في المنطقة، و ما نتأثر به من أحداث على مستوى العالم كله ..

عفواً ايها الزعيم الفيسبوكي الخالد .. الدولة الأبوية لا يمكن أن تدللك للأبد .. و أنت يجب أن تتوقف عن التصرف كطفل أخرق !

Wednesday, November 2, 2016

داخل الوعاء الزجاجي

إيهاب الشيمي


شعاع بسيط من الضوء يتسلسل عبر النافذة ليشق طريقه في ظلام غرفتك الصغيرة و يصطدم دون جلبة بأرضيتها الخشبية، ثم يتحرك في خفة متسلقاً ملاءة السرير الذي تستلقي عليه، ليشق طريقه بسرعة فوق تلال الأغطية التي يختفي جسدك تحتها ليلامس دفئه في النهاية أجفانك، و يقنعها في سهولة مدهشة أن تفارق عيناك المغمضتان، بينما تتراقص في رقة في خلفية المشهد تلك الستائر البيضاء الشفافة مع نسمات الهواء الباردة و كأنهما تحتفلان باستيقاظك لتستقبل يوم جديد.
و لم تكن السهولة التي رضخت بها أجفانك لمفارقة عينيك هي نفسها التي واجهتها أنت محاولاً أن تقنع ساقيك بأن تتحركا لتخلصاك من أسر سجن الأغطية الدافئ، و لكن مع قليل من المثابرة لم يكن أمامهما إلا أن يستسلما في النهاية لرغبتك في أن تتوجه لتلك النافذة و تغمر وجهك في ذلك الشعاع الذهبي اللامع بينما تزيح تلك الستائر لتراقص أنت نسمات الهواء الباردة بدلاً عنها.
لم تمر سوى دقائق حتى فاجئت نفسك بأنك تقفز الدرجة تلو الأخرى نزولاً على سلم منزلك لتلحق بالمقعد الأخير في عرض ذلك الصباح الخريفي الجميل في المحروسة، حيث لا ضوضاء، و لا عادم، و لا أجساد تصطدم بها من شدة الزحام، على عكس العرض التالي الذي سيبدأ خلال ساعةٍ أو أقل بحضور الملايين ممن سيندفعون في كل اتجاه لقضاء مصالحهم.
ها هو "عم إبراهيم" يلقي عليك السلام، و ها هي "أم محمد" تهرع إلى سيارتك لتمسح ما قد يكون قد تراكم عليها من ذرات الغبار و لتعيد "ماسحات المطر" مجدداً إلى مكانها، في حين يقطع هدوء العرض صراخ ذلك الطفل في مدخل الروضة المواجهة لمنزلك، بينما تستطيع ان تسمع كلمات أمه و هي تحاول إقناعه بابتسامة حانية أنه سيجد بالداخل كل ما يسره، و أنها لن تتأخر سوى دقائق معدودة ..
تتجاوز ذلك المشهد في عجالةٍ و كأنك قد تذكرت فجأة تلال الأوراق التي تنتظرك منذ البارحة على مكتبك، لتخرج مفاتيح السيارة من جيبك بيد بينما تمنح "أم محمد" باليد الاخرى ما جادت به نفسك اليوم "من اللي فيه القسمة"، لتطلق هي العنان لدعواتها لك بالسلامة و سعة الرزق و أن يرزقك الله ببنت الحلال.
و بينما تلقي بجسدك على المقعد الأمامي ممسكاً بمقود السيارة مستمتعاً بالدقائق الأخيرة في ذلك العرض، ترى في أقصى المشهد و في نهاية الشارع طابور من السيارات المصفحة و عربات جنود مكافحة الشغب، الذي يبدو أن الجميع في الشارع قد اعتادوا رؤيته في الفترة الأخيرة، و قد اندفع ليقطع رومانسية العرض مقترباً منك في سرعة..
و بينما تهم بتشغيل المحرك يدوي فجأة صوت انفجار هائل  !!
و على الفور تشعر و كأن هناك من ضغط على زر تشغيل العرض بالحركة البطيئة، بينما ينتابك ذلك الشعور الغريب، و المخيف في الوقت ذاته، أن جسدك يسقط داخل وعاء زجاجي ضخم مملوء بالمياه لترى صورة مشوشة من داخله لكل ما يجري حولك، بينما عيناك تتنقل ببطء بين وجوه كل من في المشهد و هم ينظرون بهلع إلى إلى مصدر ذلك الصوت الهادر ..
الأصوات داخل الوعاء الزجاجي كلها مختلطة في صدى مخيف و كأنها لم تعبر من خلال أذنيك بل عبرت مباشرة إلى داخل دماغك
كل شئ مشوش.. الوجوه .. الأصوات .. بل حتى ألوان الأشياء .. لا يمكنك تمييز كلمة بعينها مما تسمعه .. كل ما يمكنك تمييزه هو صراخ الجميع بينما تتحطم كل الأشياء لتتناثر شظاياها في جنبات المشهد مخترقة أجساد الجميع..
و بنفس السرعة و دون أن تتدخل في أي قرارات يتخذها دماغك، يقرر هو فجأة إيقاف عمل زر تشغيل الحركة البطيئة، لتتمكن من السعال بشدة لطرد رائحة الدخان اﻷسود الذي سرعان ما اكتشفت أنه يملأ رئتيك..
نعم .. ها أنت ذا تستجمع قواك ..
نعم .. ها أنت ذا تخرج من ذلك الوعاء لتعيد نفسك للواقع من جديد ..
يمكنك بالكاد، بعد أن تمكنت من فتح إحدى عينيك، أن ترى الجميع يفرون بأرواحهم بعيداً عن الخطر ..
الجميع يركض هاربا بينما تخضبت ملابسهم و أجسادهم بحبات العرق و قطرات دماء جراحهم ..
نعم .. الجميع يفرون بأرواحهم، حتى أولئك الذين خرجوا في سياراتهم المصفحة لحماية الوطن من غدر العملاء ..
إلا هي ..
هي وحدها تركض في الاتجاه المعاكس..
هي وحدها تجري في اتجاه الخطر ..
هي وحدها من يمكنك أن تفهم ما تصرخ به وسط كل تلك الفوضى..
"سيبوني .. سيبوني .. ابني في الحضانة اللي هناك .."
"ابني في الحضانة اللي هناك .."
"ابني في الحضانة .."
"ابني .."
"ابني .."
لا ..
أنت لا تريد أن ترى نهاية ذلك المشهد
أنت لا تريد أن تعرف إجابات كل تلك الأسئلة التي تدور برأسك..
هل ستجف دموعها التي تنهمر من عينيها الحمراوتين كالجمر حتى تكاد تزيد من استعار نيران الانفجار، أم أنها ستظل تجري بالدموع دون انقطاع ؟
هل ستظل كلماتها المنتحبة تتردد في أذنيك للأبد، مفجرة غضبا لم تعهده من قبل، أم  أنها ستكون مجرد ذكرى تقصها على وليدها حين يكبر إذا كتب الله له النجاة ؟
ها هي هناك .. مازالت تجري نحو النيران و كلماتها تتردد بلا توقف ..
و من جديد و في غضون لحظات، يبدو و كأن دماغك قرر مرة أخرى التحكم بزمام اﻷمور رغما عنك..
ها هو يخفض تدريجيا صوت العرض ..
ها هو يحاول جاهداً و في غريزية مطلقة أن يدفعك بعيداً عن المشهد برمته ..
اﻵن فقط يمكنك تنشق بعض الهواء بينما وجدت نفسك مرتميا بجانب سيارتك على حافة الرصيف وسط مجموعة من الغرباء ممن يحاولون مساعدتك بينما يصرخون:  " إسعاف .. إسعاف .. حد يكلم الإسعاف .."
ها هو المشهد داخل عقلك يصبح أكثر وضوحا شيئاً فشيئاً .. أو هكذا توهمت !
فالمشهد اﻵن لم يعد أكثر وضوحاً، بل أكثر إيلاماً من تلك الشظايا التي بدأت تشعر بوخزاتها في كل أنحاء جسدك ..
المشهد اﻵن لم يعد إلا أكثر بعداً عن وطنك الذي ألفت فيه السلام و الأمن و التسامح ..
المشهد اﻵن لم يعد إلا أكثر قسوة من قلوب هؤلاء الذين ظننت أنهم استنفذوا كل مخزون البشرية من القسوة و العنف و الكراهية بعد أن فقدوا السلطة، و ضاع منهم حلم الخلافة.
ما أود منك أن تتيقن منه هنا هو أن العرض التالي بالتأكيد هو رهن بقرارك أنت وحدك..
فإما أن تستسلم لجراحك تاركاً وطنك لخفافيش الظلام و تسقط مرة اخرى داخل ذلك الوعاء..
 أو أن يكون قرارك هو عدم الرضوخ لكل ذلك الإرهاب، و كل ذلك الرعب الذي يريدون أن يزرعوه داخل قلوب الجميع، و أن تؤمن أننا بوحدتنا، و تقبلنا لاختلافنا في رؤية مصلحة الوطن، و بنقدنا لعيوبنا دون مزايدة او تجريح، قادرون على هزيمة إرهابهم و تجاوز هذه الأوقات العصيبة من عمر الوطن لكي نمنح تلك الأم، و ملايين الأمهات الأخريات، فرصة أخرى لكي ترى وليدها الذي تركته في الروضة سالماً مرة أخرى، و لكي تعلمه كم هي مصر جديرة بحبنا لها، و كم هو مقدس ترابها الذي نحيا فوقه، و كم هو عظيم شعبها الذي طالما كان على قدر التحديات ليخرج من محنة بعد الأخرى أفضل تلاحماً، و أعمق وعياً، و أشد قوةً، و أكثر إيماناً بأن مصر حتماً .. ستنتصر.
حمى الله مصر و شعبها.

Saturday, October 15, 2016

مصر .. بين استقلال القرار و الاقتصاد المنهار !

إيهاب الشيمي

حين بدأت حرب التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية ضد انقلاب الحوثيين و علي عبد الله صالح في اليمن انتشرت شائعات اشتراك مصر برياً فيها كالنار في الهشيم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، و على كراسي مقاهي المحروسة، بل و على مقاعد وسائل المواصلات.
 
 و بدأ الإخوان و من يمولهم و من يسير خلفهم لمصلحة يرجوها، و الليبراليين الذين يرون في النظام السعودي كل أركان الرجعية و انتهاك حقوق الإنسان، و اليساريين الذين لا هم لهم سوى المعارضة دون طرح الحلول، و القوميين الذين يرون في النظام السعودي خطراً داهماً على القومية و الهوية العربية، و مغيبي العقل من يرددون السخافات دون إدراك لحقائق الأمور، بدأ كل هؤلاء بالهجوم على القيادة السياسية في مصر، و كيف أنها ستدفع بفلذات أكبادنا إلى أتون الحرب البرية في اليمن مقابل الحصول على المليارات السعودية لتمويل اقتصادها المتداعي !

و لكن حين مرت الأسابيع تلو الأخرى دون أن يحدث ذلك و ظهر كذب ادعاءاتهم جميعاً، و أن دماء المصريين و أرواحهم لم تكن رخيصة لدى القيادة السياسية كما كانوا يروجون، بدأوا في الهجوم من زاوية أخرى تناقض تماماً موقفهم السابق !
 
فالقاهرة التي كانت تابعةً للسعودية و ستدفع بجنودها إلى مصارعهم في اليمن مقابل المال، تحولت فجأة " بقدرة قادر " لتصبح معارضةً للرياض، بمساندتها لبقاء الدولة السورية موحدة، و رفض دعم الفصائل المتشددة المسلحة التي تدعمها السعودية و الولايات المتحدة بحجة تصنيفها كمعارضة معتدلة، و أصبحت القاهرة كما يدعون خصماً للشعب السوري و ثورته !
 
و لم يخجل هؤلاء من ذلك التناقض في مواقفهم، و لم يعطوا تفسيراً لكيفية تحول ثوابتهم الليبرالية و القومية و اليسارية من معارضة النظام السعودي إلى مساندته فجأة لمجرد أن ذلك سيصب في مصلحة هجومهم على القيادة في مصر !

ثم أعاد كل هؤلاء الكرة، ليبدأوا هجوماً جديداً هذه المرة، و لكن من خلال إعادة الترويج للكذبة الأولى التي تروج لتبعية القاهرة و انصياعها لرغبات الرياض، بل و إهداء جزيرتي البحر الأحمر للعاهل السعودي مقابل المليارات و النفط السعودي الذي سيضخ الدماء في شرايين الاقتصاد المصري !

ثم ما لبث هؤلاء أن اتهموا القاهرة من جديد بالغباء السياسي و الدفع بالبلاد للانهيار بمعارضتها للنهج السعودي في معالجة الأزمة السورية، و كيف أنها بمساندتها للقرار الروسي بمجلس الأمن قد اضرت بمصالحنا مع الرياض، و هم من كانوا قد اتهموها سابقاً ببيع أرواح و دماء و أرض المصريين لصالحها !

و هكذا أصبحت مواقفنا من الرياض لدى هؤلاء سبباً للهجوم على القيادة السياسية في جميع الأحوال لخدمة أهداف من يريدون زعزعة الاستقرار و فقط في مصر دون رغبة حقيقية في النقد البناء أو النصح الرشيد ..
فحين تتوافق الآراء، فذلك تبعية و بحث رخيص عن المال و الدعم لا يليق بمصر ..
و حين تتباعد الرؤى و المصالح، فذلك إضرار بمصالح مصر الاقتصادية و الإقليمية و خيانة لحق الشعب السوري في الحرية !

و يبقى السؤال ..
 
لو أن الرجل القابض على مقاليد الأمور في القاهرة يبحث عن المال كما يدعي هؤلاء لدعم نظامه على حساب مصالح وطنه و شعبه، ألم يكن من الأسهل عليه أن يرسل سفناً محملة بالآلاف من الجنود إلى اليمن كما فعل مبارك أثناء حرب الخليج الأولى ليحصل على المليارات التي يحتاجها بشدة لسد العجز الهائل في موازنته ؟
 
لو أن الرجل كما يدعي هؤلاء يبحث عن المال، ألم يكن من الأسهل عليه دعم الموقف السعودي و الأمريكي في سوريا و لتذهب وحدة أراضيها إلى الجحيم و لتبقى شبه دولة يستبيح الجميع أراضيها لعقود طويلة قادمة كما هو الحال في العراق الآن ؟

لو أن الرجل يبحث عن المال، ألم يكن من الأسهل عليه التخلي عن البرلمان الذي انتخبه الشعب الليبي في طبرق ليؤيد حكومة السراج التي أتى بها الغرب ليحصل على كل ما يريد من النفط تحت حماية القوات البحرية التابعة للاتحاد الأوروبي و حلف الأطلسي و ليذهب مستقبل مصر إلى الجحيم بعد أن يسيطر المتطرفون الإسلاميون على ليبيا بعد أن تم دمجهم في حكومة السراج ليعيدوا إنتاج المشهدين المصري و التونسي من جديد ؟

لو أن الرجل يبحث عن المال، أليس الأولى به أن يحوله لحساباته و حسابات معاونيه بدلاً من إنفاقه على مد و تطوير شبكات الطرق و إنشاء محطات الكهرباء و تطوير البنية التحتية و مكافحة فيروس سي و بناء الموانئ و شق الأنفاق تحت قناة السويس لتنمية سيناء، و أن ينأى بنفسه عن النقد و الهجوم و التساؤلات التي لا تتوقف حول جدوى هذه المشروعات بينما يمكنه أن يضخ كل ذلك لدعم السلع الأساسية و زيادة المرتبات ليستمتع بالاستماع إلى هتاف المواطنين بحياته كما كان يفعل سابقوه ؟
 
و السؤال الأهم .. لو أن الرجل يبحث عن المال كما تدعون، ألم يكن من الأسهل عليه أن يبتعد عن المغامرة بحياته و عن مواجهة الولايات المتحدة و الاتحاد الأوروبي،  بأن يبقى وزيراً للدفاع في حكومة مرسي و يضمن تدفق الأموال لصالحه هو و المقربين منه مقابل ضمانه ولاء الجيش للمرشد و استيلاء داعش على سيناء ؟
 
نعم .. لا أنكر أن لدى الرجل تركة ضخمة من الفساد و المحسوبية و الخلل الشديد في منظومة العدالة الجتماعية، و أنه تأخر كثيراً في التعامل معها جميعاً مقابل التفكير في مشاريع ستؤتي ثمارها على المدى الطويل ..

و لا أنكر أني من أشد المنتقدين لخياراته بشأن من يتولون مهام الحكومة و من يعتمد عليهم من بقايا عهد مبارك ممن لن يقدموا الجديد لاجتياز التحديات الاقتصادية القائمة ..

و لا أنكر أنه لم ينجح حتى الآن في اختيار مقاربة إعلامية ناجحة لمخاطبة المشكلات القائمة بالفعل لدى رجل الشارع، و البعد عن النظرة الاستعلائية التقليدية للحكومة في مصر التي تحتفظ لنفسها بكل المعلومات و تبقي الجميع في الظلام بحجة الحفاظ على الأمن القومي، و هو ما أفقده الكثير مما كان يحظى به من ثقة و دعم ..

لكني مع ذلك، لا أشك مطلقاً في ولاء الرجل لمصر و رغبته في خلق مستقبل أفضل للجميع، و الاحتفاظ باستقلال القرار الوطني بعيداً عن أي حسابات إقليمية أو ارتباطات بجماعات ضغط داخلية، أو أي دعم مالي أو اقتصادي قد يظن البعض أنه يمكن من خلاله شراء مواقفنا !
 
أما أنتم .. يا من ترددون و فقط ما يروج له هؤلاء من شائعات دون أن تتوقفوا لحظة لفهم ما يدور في الكواليس، أو لرؤية التناقض في مواقفهم السياسية و الأيديولوجية ..
 

أتدرون ما مشكلتكم ؟

مشكلتكم .. أنكم لا تدركون أن علاقات الشراكة و الدعم بين الدول تحكمها مصالحها المشتركة و ثوابتها التاريخية التي لا تتضمن التبعية المطلقة أو العداء الأبدي !
 

مشكلتكم .. أنكم لا تدركون قيمة هذا الوطن العظيم ..

أو دعوني أكون أكثر صراحة، أو وقاحةً إذا رأيتموها كذلك، لأقول لكم :
مشكلتكم الكبرى أنكم و ببساطة .. مجرد حفنة من الأغبياء !

Wednesday, October 5, 2016

أكتوبر .. النصر الذي يكرهونه !


إيهاب الشيمي

رابط المقال على روزاليوسف المصرية

"نصر أكتوبر !!!
إنت بتصدق الحاجات دي برضه ؟ 
دي حاجات السادات ضحك عليكم بيها و خان سوريا عشان يعرف يبيع البلد للأمريكان يا ابني"
ربما يتملكك الآن غضب شديد من قراءة هذه العبارة و حينها أستطيع أن أتخيل أنك لم تسمع هذه الكلمات من قبل ، و قد تكون أسوا حالاً كمن أتعسهم الحظ مثلي، منذ سنوات مضت و حتى الآن، بلقاء الكثيرين ممن يروجون لهذه الادعاءات و الافتراءات التي تشوه نصر الشعب المصري العظيم في أكتوبر، بل و تنفيه تماماً في بعض الأحيان.

و لن أجهد عقلك في تخيل هيئة من سمعتهم يرددون هذه العبارة، أو التكهن بجنسياتهم، أو استنتاج انتماءاتهم السياسية، و الدينية, و الطائفية، فالقائمة تطول و الأساليب  متعددة، و لكنك ستجد الأمر أكثر سهولة حين تتبين الهدف الذي يوحدهم جميعاً، و هو دائماً قتل كل ما يمكن أن يشعر معه أبناء هذا الوطن بعزتهم و كرامتهم و قدرتهم على تحقيق المستحيل رغم كل المصاعب و المعوقات و التحديات، و قتل الإيمان بقيم الانتماء و البذل و العطاء من أجل مصر و شعبها العظيم.

و لن يمكنك بالتأكيد مواجهة أية صعوبة في معرفة من يحتل رأس القائمة، و هو العدو الأول "إسرائيل" و من خلفها "الولايات المتحدة الأمريكية"، و اللتان روجتا منذ نهاية الحرب و حتى الآن لأكذوبة أن عملية "يوم كيبور"،كما يسمونها، انتهت بلا منتصر أو خاسر، بدليل وجود القوات الإسرائيلية غرب القناة في الدفرسوار مقابل وجود القوات المصرية شرقها، و أن قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار هو ما حسم الأمور و جنب المصريين ويلات الرد الإسرائيلي. و هنا عزيز القارئ يمكنك بسهولة اسناد مهمة الرد على تلك الأكاذيب إلى لجنة "أجرانات" التي شكلها الكنيست لتقصي الحقائق عن الحرب، و التي اعترفت بالخسائر الفادحة على المستويين السياسي و العسكري، و حملت رئيسة الوزراء "جولدا مائير"، و وزير الدفاع "موشي ديان"، و رئيس الأركان "ديفيد إليعازر" كامل المسئولية عما أسموه في التقرير "الزلزال" الذي هز إسرائيل اعتماداً على شهادات كبار الضباط و القادة العسكريين و أجهزة المخابرات الإسرائيلية، و أعضاء لجان الدفاع و الأمن بالكنيست. و هو ما يمكن تاكيده بتصريحات كيسينجر نفسه من أن الولايات المتحدة هي من عمدت إلى إصدار قرار وقف إطلاق النار لتجنب فضيحة كبرى تدمر سمعة صناعة السلاح الأمريكية إذا قامت مصر بالقضاء على الدبابات الأمريكية التي نجح "شارون" بالعبور بها إلى الغرب في الدفرسوار.

و دعني اقترح عليك بعضاً من الأسماء الأخرى الموجودة بالقائمة، و ليكن أولها "الاتحاد السوفييتي" !! ... نعم "الاتحاد السوفييتي" و أعلم انك قد تجد بعض الصعوبة في تفهم ما دفعني للزج بإسمه بينما من المفترض أن يكون من المروجين للنصر المصري و حقيقة انتصار السلاح الروسي على نظيره الأمريكي، و لكن الحقيقة أن أجهزة المخابرات الروسية، و سفيرهم في القاهرة في الفترة من 1970 و حتى 1974، قد رفعوا عدة تقارير تهدف للتغطية على فشلهم في توقع تحركات الرئيس "السادات"، الذي أقصى رجالهم المقربين في مراكز القوى، ثم طرد المستشارين العسكريين قبل الحرب مباشرة، رداً على تجاهل السوفييت لمطاب المصريين بالمزيد من السلاح و قطع الغيار، و تعامل موسكو مع مصر كمجرد ورقة تتلاعب بها في حربها الباردة مع الولايات المتحدة.

و لتجنب غضب القيادة في موسكو قام السفير و أجهزة المخابرات الروسية في القاهرة بطرح نظرية أن "السادات" قد اتفق سراً مع الولايات المتحدة الأمريكية و إسرائيل لرسم خطة هذه الحرب "المزيفة" لكي يمكن للسادات الحصول على الدعم و التمويل الأمريكي اللازم لإعادة بناء الاقتصاد المصري من خلال ما سيتلو هذه الحرب من عملية طويلة للسلام، و في المقابل يمكن لأمريكا قلب موازين القوى في المنطقة بتحويل مصر، و هي الحليف التاريخي للسوفييت، إلى حليف لها و البدء في ترسيخ دعائم وجود الكيان الصهيوني في المنطقة. و استغل السفير و أجهزة الاستخبارات الروسية في إقناع الجميع بنظريتهم المزعومة غضب القيادة في موسكو من طرد "السادات" للمستشارين السوفييت، و رغبة "الكرملين" الدفينة أن تخسر مصر الحرب، أو لا تحقق أهدافها منها على الأقل، لكي تكون عبرة لغيرها من الدول التي تتحدى الإرادة الروسية و تخرج عن سياق لعبة الحرب الباردة.

و يفترض بك عزيزي القارئ لكي تصدق هذه "الخزعبلات" أن توافق على فكرة أن إسرائيل اشتركت مع "السادات" في هذه الحرب "المزيفة" كما يدعي السوفييت، و وافقت على التخلي بكل بساطة عن سيناء و ثرواتها و عن خليج العقبة و خليج السويس بكل ما يمثلانه من أمن قومي و ثروة نفطية،!! كما أنها ضحت و بصدر رحب بمليارات الدولارات التي أنفقتها لتحظى بأقوى خطوط التحصينات الدفاعية في التاريخ و التي أقامتها على خط بارليف بطول القناة، و أنها وافقت على تدمير أكثر من 300 طائرة تحمل خيرة طياريها الذين طالما تباهت بأنهم ذراعها الطولى، و أن تتقبل فكرة أن جولدا مائير زجت بأكثر من عشرة آلاف من خيرة جنودها إلى الهلاك ممن انتهى بهم الأمر بين قتيل و جريح، فضلاً عن تدمير أكثر من 1000 دبابة إسرائيلية، و تدمير الفكرة الأسطورية التي زرعها الصهاينة في نفوس و عقول اليهود و العرب و الغرب لعقود طويلة من أن الجيش الإسرائيلي جيش لا يقهر.

و دعنا ننتقل إلى اقتراحي التالي في القائمة، و هو للأسف الكثير من العرب الذين رفضوا حقيقة أن الهدف من حرب أكتوبر لم يكن ان تقوم مصر نيابة عنهم بتحقيق اسطورة "إلقاء إسرائيل في البحر" كما ظل قادتهم يروجون لهم لعقود، و رفض هؤلاء القادة لاستراتيجية "السادات" التي قامت على استغلال الحرب كبداية  لتحريك المياه الر اكدة في العملية السياسية في الشرق الأوسط، و فرض أمر واقع على الأرض يمنح العرب مركز القوة الذي ينشدونه اثناء محادثات السلام لاسترداد أراضيهم و عودة إسرائيل لخطوط ما قبل يونيو 1967 و تنفيذ قرارات مجلس الأمن بهذا الشأن.

و لم يستطع هؤلاء تجاوز صدمة حديث "السادات" عن عملية السلام بعد عشرة أيام فقط من الحرب في خطاب النصر الذي ألقاه في مجل الشعب المصري يوم السادس عشر من أكتوبر 1973، و الذي انقسم بين شرحه لتحديات قرار الحرب و تفاصيل النصر، و بين رؤيته لعملية السلام التي فتح هذا النصر الباب لها على مصراعيه.
و في هذا الإطار بدأ هؤلاء في الترويج لفكرة "خيانة السادات" لحليفه "حافظ الأسد" و تخليه عن دعمه و الاكتفاء بما حققه على الجبهة المصرية، و هو ما أدى في النهاية برأيهم لفشل الهجوم السوري في الجولان و استعادة اسرائيل لمواقعها هناك.

و للرد على هؤلاء عزيزي القارئ، فيجب ان تعرف أن هضبة الجولان هي مكان مرتفع يمكن لمن يسيطر عليه أن يكشف بالكامل الجانب الغربي المتمثل في وادي نهر الأردن الذي يمر من خلاله نهر الأردن الفاصل بين العمق الإسرائيلي و سوريا، بل و رؤية العمق الإسرائيلي بالكامل، بينما يمكنك في الجهة الشرقية منها كشف العمق السوري وصولاً إلى دمشق على بعد ما يقرب من 40 كيلومتراً فقط.

و في يومي السادس و السابع من أكتوبر تمكنت القوات السورية و بنجاح من اجتياح الخطوط الدفاعية الإسرائيلية و النقاط الحصينة و السيطرة على الهضبة بالكامل، و تمكنت من كشف الوادي بالكامل تحتها، و كشف الكباري التي تنتشر فوق نهر الأردن ، و التي تمر مباشرة إلى داخل العمق الإسرائيلي، و هو ما اعتبره "ديفيد اليعازر" و "جولدا مائير" الخطر الأكبر ليس على فرصهم في كسب الحرب و حسب، و لكن في خسارة وجود دولة "إسرائيل" بالكامل.

و لم يكن على السوريين،بعد أن صاروا في مركز القوة، سوى التحرك نحو كباري نهر الأردن و السيطرة عليها و تهديد العمق الإسرائيلي، أو تدميرها على أقل تقدير لمنع الاحتياطيات الاسرائيلية من عبور الكباري مرة اخرى إلى الجولان، و لكن المفاجأة الكبرى أن السوريين فضلوا البقاء في مواقعهم فوق الهضبة و عدم الاشتباك أسفل الوادي.

و هنا استغل "اليعازر" الفرصة و دفع بكل ثقله نحو الجبهة السورية للحفاظ على كيان "إسرائيل" و كثف من غارات سلاح الجو على المواقع السورية، و استطاع دفع احتياطياته عبر كباري نهر الأردن، التي لم يدمرها السوريون، لتحتل الجولان مرة اخرى و تكبد السوريين خسائر فادحة، و هو ما دعا الرئيس "السادات" لمخالفة نصائح قادته و الأمر بالاستجابة لطلب "حافظ الأسد" بتخفيف الضغط على السوريين من خلال تقدم الدبابات المصرية إلى عمق سيناء في اتجاه الاحتياطيات المدرعة الاسرائيلية، و هو ما جعل القوات المصرية تبتعد عن مجال حماية صواريخ الدفاع الجوي المصرية لها و سمح للطائرات الاسرائيلية بتدمير ما يزيد على الف دبابة مصرية أثناء سعي المصريين لتخفيف الضغط عن الجبهة السورية، و هو ما سمح أيضاً بالتالي للدبابات الاسرائيلية باستغلال الارتباك الحادث للقيام بعملية عبور خاطفة إلى غرب القناة في الدفرسوار، تكمنوا خلالها من تدمير بطاريات الصواريخ المصرية التي تحمي قواتنا في الشرق، ليبدأ بعدها حصار قوات الجيش الثالث في السويس.

و هكذا أصبحت التضحية بثلث المدرعات المصرية دون غطاء جوي في سيناء و تبدل مراكز القوى على الجبهة المصرية من أجل تخفيف الضغط على السوريين، ثم القبول بوقف إطلاق النار لإجبار إسرائيل على الجلوس إلى مائدة المفاوضات و الانسحاب الكامل خيانة للسوريين و لقضية الصراع العربي الإسرائيلي في نظر هؤلاء.

و يمكنك عزيزي القارئ إضافة اسماء اخرى للقائمة من أدعياء "الشرعية المزعومة"، و من يوالونهم من المرتزقة و المأجورين من أصحاب المصالح و منفذي خطط استعادة الخلافة، الذين أنكروا من قبل على المصريين حقهم في الفرح بنصرهم في أكتوبر ليقوموا بعده بشهور قليلة بعملية دنيئة في أبريل 1974 قتلوا خلالها العشرات في الكلية الفنية العسكرية اثناء محاولتهم الاستيلاء على أسلحة تمكنهم من تنفيذ عملية اغتيال "السادات" و الاستيلاء على الحكم، كرد لجميله بإطلاق سراحهم من السجون ليواجهوا المد اليساري.

كما يمكنك، و للأسف الشديد، هذه الأيام، و عبر متابعتك لشبكات التواصل الاجتماعي، إضافة السذج و فاقدي البصيرة، ممن لم يستطيعوا التفرقة بين كراهيتهم لأشخاص ينتمون للمؤسسة العسكرية، و بين حقيقة أن أكتوبر هو نصر المصريين جميعاً و ليس الجيش فقط.

ما أود أن أقوله لكل من تحتويه هذه القائمة المقيتة، هو أن نصر أكتوبر الذي تكرهونه كان انتصاراً معنوياً و سياسياً و عسكرياً و استراتيجياً بكل ما تعنيه هذه المصطلحات من معاني..

لقد انتصرنا في أول حرب، بالمعنى الحقيقي للكلمة، يخوضها العرب ضد إسرائيل في القرن العشرين و قضينا على أسطورة الجيش الذي لا يقهر التي طالما روج لها العدو ..

لقد انتصرنا على أصعب مانع مائي في العالم، و على أعلى سد ترابي في تاريخ الحروب الحديثة، و على أقوى خط دفاعي يحتاج بشهادة الخبراء العسكريين لقنابل نووية لتدميره ..

لقد انتصرنا على الولايات المتحدة بما تمثله من قوة عظمى متقدمة علينا في الكم و الكيف و التكنولوجيا و الإمكانيات ..

لقد انتصرنا على الاتحاد السوفييتي الذي حرمنا السلاح و انفرد بأسراره لمستشاريه، و بث اليأس في نفوسنا من إمكانية تحقيق أي انتصار، و جعلنا مجرد ورقة في لعبة الحرب الباردة ..

و الأهم من ذلك كله أننا انتصرنا على مخاوفنا من الفشل، و تغلبنا على افتقادنا للثقة بأنفسنا، و استعدنا من جديد الإيمان بوطننا و أمتنا و شعبنا و قيادتنا.

و هكذا عزيز القارئ .. أيها المصري الفخور بعروبته، لا أريد منك في النهاية إلا أن تكف عن الالتفات لدعاوى الحاقدين، و أن تزداد فخاراً و عزة بانتمائك لهذا الوطن، و أن ترفع في يوم انتصارك رأسك عالياً أمام الجميع لأنك ببساطة .. مصري.

Saturday, September 24, 2016

رشيد .. الحلم و المأساة و الغضب !

إيهاب الشيمي

رغم اقتناعي أن غرق كل تلك الأرواح البريئة هو نتيجة لقرارها الخاطئ و الكارثي بالهجرة غير الشرعية نحو المجهول و نحو قارة لن تقدم لهم دولها سوي الاحتجاز في كانتونات تتعرض لهجمات أتباع اليمين المتطرف، أو لحملات السلطات المختصة لإعادة معظمهم إلى دولهم مرة أخرى، إلا أن الأمر لا يحتمل إسقاط التهم عن الحكومة و إلصاق الأمر كله بالضحايا أو بمن فقدوا ما تبقى من آدميتهم من تجار البشر و أباطرة الهجرة غير الشرعية ..

 و لا استثني من الحكومة هنا مسؤولا واحداً .. بدايةً من رئيسها الذي تغاضى عن حث البرلمان على إقرار قانون تغليظ العقوبة على تجارة البشر و الهجرة غير الشرعية و اهتم فقط بتمرير حزمة القوانين الاقتصادية التي تتيح له الحصول على تسهيلات ائتمانية دولية و اقليمية .. !

و لا بمجلسها بكامل أعضائه الذين تجاهلوا عقد اجتماع للتحقيق في الحادث حتى بعد مرور اكثر من 96 ساعة على وقوعه و كأن أكثر من ثلاثمائة روح مصرية لا تستحق عناء اجتماع هؤلاء من أجلهم .. !

و لا وزير داخليتها الذي فشل في تطوير قدرات أجهزته الأمنية ليمكنها محاصرة و تعقب المهاجرين الأفارقة و المهربين المحليين، و فشل بصورة أكبر في محاصرة الفساد داخل وزارته ليمنع استمرار هؤلاء في أنشطتهم الاجرامية نتيجة حماية بعض كبار الضباط لهم مقابل مبالغ و امتيازات لا يمكن إنكارها .. !

 و لا وزير نقلها الذي استشرى الفساد في وزارته و ضربت الفوضى كل ركن فيها بحيث أصبح من شلطة موظف صغير فاسد في هيئة موانئ رشيد أن يصدر تصاريح وهمية لمثل ذلك المركب بغرض الصيد بينما الحقيقة أن مالك المركب أجرها لمافيا التهريب و الهجرة .. !

و لن أستثني أيضاً خفر السواحل الذي لم تستطع دورياته كشف وجود المركب لمدة يومين بعرض البحر في انتظار زبائنه دون أن يلفت ذلك انتباه ضباطه و جنوده لأسباب تثير الكثير من التساؤلات حول كفاءة هذه القوات في مراقبة حدودنا و سواحلنا من الأساس .. !

و مروراً بوزراء العمل و الاستثمار الذين حصروا جهودهم في خلق فرص العمل و منح التسهيلات للمستثمرين على محافظات بعينها بينما لا يرى شباب المحافظات الأخرى أي بصيص من النور لتحسن أحوالهم المعيشية و الاقتصادية في المستقبل القريب  ..!

و كذلك تلك المنظومة الإعلامية الحكومية الفاشلة التي لم تستطع كبح جماح تلك الأحلام الواهية التي حركت تلك الموجات المتعاقبة من المهاجرين غير الشرعيين ببيان المخاطر التي تحيق بهم، و كيفية استغلال تجار الهجرة لطموحاتهم و امانيهم، بل و كشف أكذوبة المستقبل المشرق الذي ينتظرهم على سواحل جنوب أوروبا إن حالفهم الحظ و استطاعوا الوصول إليها من الأساس !

بقي لي في النهاية قبل أن أطلق سراحك من زنزانة اليأس و الألم و المرارة التي حبستك فيها من خلال قراءة هذه السطور .. أن أنقل إليك إحساسي بالغضب و الاحتقار الشديدين تجاه أولئك المشوهين نفسياً الذين أصدروا قراراً بوضع القيود في أيدي الجرحى ممن تم إنقاذهم و نقلهم إلى المستشفيات، ليتم في النهاية ربطهم بالأسرة التي يرقدون عليها في مشهد لم نعهده حتى في التعامل مع أسرى الحروب، و كأننا لا نستطيع مجرد التظاهر أمام العالم بأننا نحترم الحد الأدنى  من حقوق الإنسان، و كأنه لا يكفي هؤلاء ما واجهوه من معاناة، و لا تشفع لهم تلك الصدمة التي يعانونها نتيجة فقد احبائهم ممن ظنوا أنهم سيعبروا بهم البحر نحو مستقبل افضل !

رحم الله من رحل، و أنعم بالشفاء على من نجا .. !

و ألهم من فقدوا أحبتهم الصبر و القدرة على احتمال آلام الفراق .. !

و منحنا جميعاً الإيمان من جديد أن هذه الأرض ستمنح يوماً لأبنائها ما يجعل غيرهم يعبر البحر أملاً في الحصول على ما لديهم، بدلاً من أن يعبروه هم إلى المجهول هرباً من المجهول أيضاً !

Saturday, September 3, 2016

مصر .. بين إدارة الفقر و تنمية الموارد !




 إيهاب الشيمي

لا يستطيع أحد ممن يقرأون هذه السطور أن ينكر أن معظم الأحاديث الخاصة بين أفراد الأسرة في البيوت المصرية، أو بين الأصدقاء على المقاهي، أو بين العمال في فترات الراحة في المصانع، بل و بين من جمعهم القدر على غير ميعاد دون سابق معرفة في وسائل المواصلات تدور الآن عن ارتفاع أسعار السلع و الخدمات يوماً بعد الآخر و كأن هناك سباقاً محموماً فيما بينها للوصول لقمة الجبل التي لا يستطيع أحد من هؤلاء حين يصل إليها أن يجد في جيوبه ما يمكن أن يكفيه للحصول عليها !

 و لن أخفيكم سراً حين أقول أن تلك الأحاديث لا تدور في فلك الطبقات الفقيرة و الأكثر فقراً ممن دأبت الحكومات المتعاقبة على وصفهم بمحدوي الدخل الذين يجب أن يحظوا بالقدر الأوفر من الرعاية و الدعم، بل إن الأمر تخطى هؤلاء ليطال الطبقات المتوسطة و المرتفعة الدخل نسبياً ليهدد جودة الحياة التي اعتادوا عليها أو التي حرصوا على أن يوفروها لأبنائهم من جودة التعليم و العلاج و الغذاء.

و لن أخوض هنا في تفاصيل المعاناة النفسية و المالية التي يعانيها كل فرد من هؤلاء، فالتفاصيل ليست بالأمر المهم طالما ظلت الخطوط العريضة و تأثيراتها و تبعاتها تقترب من التطابق لديهم جميعاً، و الأمر بكل همومه يطال الجميع و منهم كاتب هذه السطور. و لكن ما يهمني هنا هو تلك التفصيلة الثابتة في كل هذه الأحاديث، و التي تتمثل في استغلال كل من يريد العبث باستقرار مصر ممن ينتمون للإخوان المسلمين تنظيمياً أو أيديولوجياً، أو يعارضون ثورة الثلاثين من يونيو سياسياً، أو كارهي المؤسسة العسكرية المصرية، و بالطبع المتعاطفين مع نظامي مبارك و مرسي لهذا الاحتقان و السخط الشعبي.

و يمكنك عزيزي القارئ أن ترى علامات ذلك الاستغلال من خلال عدة جمل نمطية يكررها كل هؤلاء مثل: " شفت السيسي عمل إيه في البلد ؟ الناس خلاص مش لاقية تاكل " ..  و " الجيش خلاص خربها !" .. و " ما كانش عاجبكم أيام مرسي لما كان الدولار بستة جنيه ! اشربوا بقى دولار السيسي أبو 12 جنيه " .. و أيضاً " فين أيام مبارك لما كانت العشرين جنيه بتكفي الواحد أسبوع !"

لا أستطيع أن أمنع نفسي من الابتسام بخبث هنا، فأنا أعلم أن الكثيرين ممن ينتمون لهؤلاء قد امتنعوا الآن عن استكمال قراءة مقالي هذا .. و لكني سأكتفي بك وحدك عزيزي القارئ لأطلعك على بعض الخطوط العريضة لأسباب ما تمر به البلاد الآن !
فأسباب ارتفاع الأسعار يمكن حصرها في رأيي المتواضع في ثلاثة أسباب رئيسية :
.. جشع التجار و غياب الرقابة الحكومية
.. التقليص التدريجي لدعم الوقود و الطاقة و زيادة الرسوم على الواردات
.. انخفاض قيمة العملة المحلية و تراجع احتياطي النقد الأجنبي

و لن أخوض في تفاصيل النقطة الأولى لأنها ببساطة لا تخفى عليك، فأنت غالباً تعرف هؤلاء التجار شخصياً، كما أنك تطالع وجوه رئيس و أعضاء الحكومة يومياً على شاشات التليفزيون و في صدر صفحات الجرائد و تبتسم في سخرية كلما استمعت لقراراتهم حول تشديد االرقابة و استحداث العقوبات بالتنسيق مع الغرف التجارية المختلفة، تلك القرارات التي تعلم جيداً أن مصيرها هو أدراج أرشيف الوزارة لتعلوها الأتربة حتى يلتهمها حريق مجهول الأسباب في النهاية !

و لكني سأركز هنا على النقطتين الأخرتين و سأبدأ بتأثير الدعم على ارتفاع السعار و غلاء المعيشة ..
فلو أنك ممن تجاوزوا الثلاثين من العمر فسيمكنك بسهولة أن تسترجع تلك الصورة المثيرة للسخرية التي كنا نشاهدها على شاشة التليفزيون الرسمي في عيد العمال، حين كان يصرخ أحد القابعين في الصفوف الخلفية هاتفاً: " المنحة يا ريس" .. ثم يرد آخر من الجهة المقابلة: " العلاوة يا ريس" و هنا يبتسم ذلك الأخير موجهاً كلامه لرئيس الحكومة قائلاً: " عايزينك تزود العلاوة حبتين السنة دي .. قول للحكومة تفك الكيس شوية !"  لينفجر الجميع في الضحك ثم يتعالى التصفيق و الهتاف بحياة الرئيس !
ذلك المشهد الذي يبدو في ظاهره انحياز الرئيس للطبقة الكادحة و محدودي الدخل، بينما في الحقيقة يبطن في طياته أسباب الواقع الأليم الذي نعيشه الان جميعاً !

فنظام مبارك خدع الجميع ببقاء الأسعار عند مستويات ثابتة تقريباً، أو دعني أكون أكثر تحديداً بقولي أنه أبقاها عند مستويات تمكنه من تجنب الغضب الشعبي لأكبر فترة ممكنة.
فلقد اعتمد مبارك على الزيادة المستمرة للأجور عاماً بعد الاخر، و الإعلان عن وظائف حكومية لا حاجة لها سنوياً، و توفير مخصصات هائلة لدعم مشتقات الوقود من الغاز و المازوت و البنزين و كذلك دعم الكهرباء و هو ما مثل عبئاً كبيراً على الموازنة العامة للدولة.
و ما زاد الطين بلة، أن ما تكلفته الدولة هنا لم يتم توجيهه إلى مستحقيه، بل استفاد منه أباطرة صناعة الحديد و الإسمنت و السيراميك الذين حصلوا على الوقود و الطاقة بالسعر المدعوم بينما باعوا منتجاتهم بالأسعار العالمية ليحتفظوا بالفارق في خزائنهم، و ليزيد نفوذهم، و يزيد بالتالي نفوذ و سطوة الحزب الحاكم الذي مثلوا رموزه و قياداته العليا !

و هكذا يمكنك بسهولة عزيزي القارئ تبين الحقيقة المؤلمة، و الإجابة عن السؤال الأكثر إثارة للحيرة بين الجميع: " هو مبارك كان مدورها إزاي ؟!" .. فالرجل لم يفعل شيئاً سوى توجيه معظم بنود النفقات في الموازنة العامة نحو تخدير الشعب و ضمان تجنب سخطه و غضبه و ذلك بالعمل على الزيادة الدورية للأجور، و خلق فرص عمل وهمية لا تساهم بأي شكل في زيادة الانتاجية، و العمل كذلك على زيادة الدعم الذي يلتهمه في النهاية رجاله المقربين أو من يشبهونهم من "حيتان السوق" كما يحب البعض أن يطلق عليهم، ممن أدمنوا التحايل على القانون لتمرير الدعم لصالحهم كما حدث مؤخراً في قضية صوامع القمح، و هو ما يفعله مئات غيرهم في سلع و مواد أخرى ، بدايةً من المواد التموينية، و نهايةً بلبن الأطفال الذي يستولي عليه موزعي الأدوية بالسعر المدعم ليبيعوه بأضعاف ذلك السعر في الصيدليات الأهلية !

و يمكنك أيضاً أن تكتشف كيف أن عشرات المليارات المهدرة كان يمكنها أن تنشئ بنية تحتية ضخمة تشمل محطات لتوليد الكهرباء، و شبكات طرق، و موانئ ضخمة، تسهم في فتح آفاق جديدة للاستثمار في مصر، و تعمل على خلق وظائف و فرص عمل حقيقية للجميع تضاعف من الناتج القومي، تجذب المزيد من المستثمرين الرئيسيين من أطراف العالم، و تزيد من موارد العملة الصعبة، و ترفع بالتالي من قيمة احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي .. و لكنه للأسف ما لم يحدث على الإطلاق، و هو ما نحاول الآن أن نتداركه لإنقاذ ما يمكن إنقاذه !

و كنتيجة لكل ذلك الفساد، و تلك الإدارة الفوضوية لموارد و اقتصاد البلاد، و غياب بنية تحتية حقيقية تسمح بإنشاء قاعدة صناعية تتيح لنا التصدير و الاحتفاظ بقيمة مقبولة و عادلة للعملة الوطنية أمام العملات الأجنبية، ظلت مصر رهينة الاعتماد على السياحة و قناة السويس كمصدرين أساسيين للنقد الأجنبي، بالإضافة بالطبع لتحويلات المصريين العاملين بالخارج. و أصبح من السهل على أية قوة خارجية تريد العبث باستقرار مصر الاقتصادي و الاجتماعي أن تصل لمبتغاها بتمويل تنظيمات إرهابية و مؤسسات سياسية و مجتمعية تنفذ مخططاتها، بل و افتعال حوادث و اتخاذ إجراءات عقابية ضد مصر تقوض من قدرتها الاقتصادية و التنافسية.

و لكي أبسط لك الأمور، فقيمة العملة الوطنية و قوتها و ثباتها تعتمد بشكل أساسي على الطلب على هذه العملة، أو بمعنى آخر على المنتجات و الخدمات التي توفرها الدولة التي تتعامل بهذه العملة للأسواق العالمية، فالأمر يشبه تماماً السلعة المعروضة في الأسواق، فإذا كان الطلب عليها ثابتاً و متزايداً، احتفظت بقيمتها النسبية أمام السلع الأخرى، و إذا لم يكن لها حاجة، تدهورت قيمتها بشكل متسارع. و طالما لا نستطيع لأسباب عدة أن نقدم للعالم ما يحتاجه، فلا تنتظر في المقابل إلا أن تتراجع قيمة عملتك المحلية.

و تبسيطاً للأمور أيضاً، فدعنا نفترض أن احتياطي النقد الأجنبي موضوع بصندوق مقسم لجزئين رئيسيين، جزء لا يمكن المساس به و هو الخاص بسداد أقساط الديون الخارجية المستحقة للدائنين، و جزء آخر يتم استخدامه لسد الطلب على النقد الأجنبي سواء من جانب الحكومة لتوفير التمويل اللازم لاستيراد السلع الأساسية، أو للبنوك العاملة في مصر التي تقوم بدورها بتوفيره للمستثمرين و المستوردين في صورة ضمانات أو تحويلات تمكنهم من إتمام صفقاتهم التجارية و الصناعية اللازمة لدفع عجلة الاقتصاد، و بالطبع للأفراد العاديين الذين يحتاجون للنقد الأجنبي أثناء سفرهم خارج البلاد للعمل أو للسياحة أو حتى لأداء شعائرهم الدينية.

و تخيل معي عزيزي القارئ أن ذلك الصندوق لا يتم تزويده بأي مبالغ تعويضاً عن تلك التي تتناقص تدريجياً من الجزء الأول المخصص لأقساط الديون الخارجية، كما أنه و في إطار غياب مناخ إستثماري حقيقي نتيجة فشل الحكومات المتعاقبة في وضع خطوط عريضة له، و فشل محافظي البنك المركزي في وضع سياسات تضمن مصالح المستثمرين، و تحفز الآخرين على الدخول في السوق المصرية، فإن  تراجع الصادرات و ما يرافقها من تراجع الدخل السياحي، و تراجع حركة الاقتصاد العالمية و بالتالي حجم الحركة في قناة السويس، تعمل جميعاً على أن يتناقص الجزء الآخر بسرعة شديدة دون أمل قريب في التعويض، خاصةً في ظل توجيه جزء كبير منه لسلع استهلاكية مثل الهواتف المحمولة و السيارات الفارهة و الأجهزة الاليكترونية التي مازال المصريون يصرون على اقتناء الأحدث منها، و ليذهب الاحتياطي النقدي إلى الجحيم !

و يمكنك أيضاً هنا استنتاج سبب تجاوز فارق السعر بين السعر الرسمي و غير الرسمي للدولار لأكثر من 50%، فالبنك المركزي سيضطر حتماً أن يعوض تناقص الجزء الأول من الجزء الثاني من الصندوق، و مع تناقص المتوافر بالجزء الثاني بشكل متسارع، فلن يمكن للبنك المركزي إعطاء القدر الكافي من العملة الأجنبية للبنوك المحلية، و بالتالي لا يمكن للمستفيدين من الجزء الثاني من الصندوق الحصول على احتياجاتهم لاستمرار أعمالهم، و هو ما سيدفعهم للبحث عن النقد الأجنبي في " السوق السوداء"، و التي يستغل تجارها الأمر لفرض ما يريدون من فارق في السعر.

و هكذا يمكنك أيضاً عزيزي القارئ أن تتوقع أن الأمر في النهاية سيصل بنا إلى فراغ الصندوق تماماً لنجد أنفسنا عاجزين عن سداد التزاماتنا الدولية، و عاجزين أيضاً عن استيراد السلع الأساسية و مستلزمات الإنتاج لينهار كل شئ !

و بالتالي أصبح من الحتمي على الحكومة البحث عن مصدر يعوض و بشكل سريع ذلك التناقص الكارثي في احتياطيات النقد الأجنبي، و للأسف فإن ذلك الحل لم يكن سوى العودة للاقتراض من صندوق النقد  الدولي و المؤسسات المالية الإقليمية مثل البنك الإفريقي، أو من خلال طرح سندات خزانة دولارية متوسطة الأجل.
و لن أخوض في جدلية صلاحية ذلك الحل من عدمه، أو في حقيقة فرض صندوق النقد الدولي شروطاً لضمان قدرة الحكومة على السداد للدول الأعضاء من عدمه أيضاً، فالأمر لن يقدم أو يؤخر طالما انتهت المفاوضات و تقرر الحصول على القرض ..

و لن أدعي أيضاً كوني خبيراً استراتيجياً إقتصادياً كأولئك الذين يطالعونا على شاشات الفضائيات، و لكني سأوجز هنا ما اتفق عليه معظم الخبراء في هذا الشأن، فالحكومة مطالبة بتنفيذ الإجراءات الاقتصادية التالية لضمان قدرتها على سداد القرض لصندوق النقد الدولي، و بالتالي موافقة مجلسه التنفيذي على منحها ذلك القرض:
•  خفض فاتورة أجور موظفي الحكومة إلى 7,5% من الناتج المحلي وذلك من خلال التطبيق الصحيح لقانون الخدمة المدنية
•  زيادة مساهمة ضريبة الشركات والمبيعات إلى 6,7% من الناتج المحلي بحلول عام 2018، وذلك من خلال تطبيق قانون القيمة المضافة
•  خفض دعم الطاقة من 6,6% إلى 3,3% من خلال :
زيادة متوسط تعريفة الكهرباء
تفعيل قانون الكهرباء والطاقة بحلول عام 2018
تحقيق فائض في الطاقة الكهربائية قدره 1000 ميجاوات خلال 3 سنوات.
زيادة مشاركة القطاع الخاص في مشروعات الطاقة المتجددة إلى 1500 ميجاوات نهاية 2018
•  تخفيض تعريفة المرور لجذب الناقلات العملاقة و الاستفادة من تطوير المجرى الملاحي لقناة السويس
•  شراء الذهب  لتعظيم موارد البنك المركزي لمواجهة عدم استقرار الدولار

و لكن ما أود أن أؤكد عليه هنا، هو أن ذلك القرض لن يكون سوى دين جديد نضعه فوق أكتاف الأجيال القادمة، و أن كل تلك الإجراءات الاقتصادية لن تكون سوى حزمة جديدة من الأعباء على كاهل الأجيال الحالية، ما لم تلتزم الحكومة و من قبلها الرئيس الذي قام باختيارها و البرلمان الذي منحها الثقة بفرض إجراءات إصلاحية إدارية و تشريعية و تنفيذية تستهدف الفساد داخل أروقة الحكومة بشكل أساسي، جنباً إلى جنب مع الإجراءات الاقتصادية التقشفية و إعادة هيكلة الدعم، فلا يمكن أن يكون الشعب دائماً هو ضحية محاولات انقاذ الاقتصاد.
و لا بد أن تشمل هذه الإجراءات ما يلي:
•  أن تلعب القيادة السياسية دورا حاسما فى مكافحة الفساد، وضمان اتخاذ إجراءات مناسبة عند الحاجة
•  تعزيز الشفافية واعتماد معايير دولية فى الشفافية الضريبية والمالية.
•  تعزيز سيادة القانون والملاحقة القانونية الفعالة، وتعيين مؤسسات متخصصة لمواجهة الفساد مع إطار فعال لمكافحة غسل الأموال للحد من عائدات الفساد.
•  تنظيم وتبسيط اختصاصات الموظفين العموميين و الحد من سلطاتهم التقديرية التي تمكنهم من تجاوز القانون و طلب الرشى و تعطيل تدفق الاستثمارات.
•  وضع إطار مؤسسى لمنع الاحتكار.
•  وضع حوافر مناسبة للسلوك الجيد و ضمان أجور وإجراءات فعالة تضمن عدم مساواة العاطل بالباطل، و تحفز الجميع على الأداء من أجل مصلحة الوطن.

و طالما التزمت الحكومة و الرئيس و البرلمان بكافة جوانب الإصلاح الاقتصادي و التشريعي و التنفيذي و ليس فقط بفرض المزيد من الضرائب و تقليص الدعم، و فرض المزيد من القيود الحمقاء على التعامل في النقد الأجنبي، فلن يكون لدي من خيار سوى تأييدهم جميعاً .. و حتى يتحقق ذلك الأمر فسأبقى في جانب المنتقدين طالما ظل القائمين على الأمور لا يملكون من الخبرات سوى تلك التي تعمل على أدارة الفقر، بدلاً من الواجب توافرها و التي تعلم كيفية استغلال الإمكانيات المحدودة حالياً لتنمية الموارد اللامحدودة لهذا الوطن العظيم من أجل مستقبل أفضل لكل المصريين.