Saturday, July 25, 2020

السهم الأول .. !


كثيراً ما حيرتني ماهية تلك الحالة الغامضة التي تتقاذفك فيها أمواجٌ متلاطمةٌ من السعادة والحزن، والبهجة والألم، والوصال والحرمان، والاطمئنان والقلق ..
وعن ذلك الشعور الذي يتدفق بقوة ليجتاح كل حواسك وينقض على كل قلاع المنطق ليدمرها في لحظات ليتركك عاجزاً إلا عن أن تلبي نداءه غير مكترثٍ بالعواقب، وغير مدركٍ لماهية الأسباب التي سلبتك العقل وأفقدتك القدرة على رؤية كل ما حولك و كل من حولك إلا من أطلق سهامه لتصيب فؤادك دون رحمة!

تلك اللحظات التي تتهاوى فيها الحاجة للإجابة عن الكثير من الأسئلة، و تتلاشى فيها كل العيوب، ولا تمنحك من الخيارات سوى أن تظل عيناك متعلقتان بذلك المخلوق الملائكي الذي ظهر فجأة كما السحابة الرقيقة البيضاء السابحة في زرقة سماء يومٍ صيفي، أو الواحة الوارفة الظلال خلف تلال الرمال الصفراء الموحشة في فراغ الصحراء اللانهائي !

تلك اللحظات التي تكاد تقسم للجميع حينها أن الأرض قد توقفت عن الدوران، وأن الزمن قد فقد قدرته على الحركة، وأن الأصوات جميعها قد تلاشت، وأن الألوان كلها قد اختفت، فلا شئ يتحرك سوى بصرك المتعلق بها، ولا أصوات سوى التي تطلقها نبضات قلبك المتسارعة المضطربة،  ولا ألوان هناك سوى ألوان عينيها وشفتاها وشعرها المنسدل على وجنتيها في رقة تغار منها رقة أجنحة الفراشات حين تلامس أزهار الياسمين!

في نهاية الأمر، ستضطر للاستسلام كما فعل كل من سبقوك ممن حاولوا فك رموز ذلك الشعور الخفي الغامض، لتنحصر معركتك معه في كيفية إحتوائه، أو إخفائه، أو التعايش معه، أو نسيانه، ولكن حتى هذه المعركة محكوم عليك فيها بالهزيمة، فقوة ذلك الشعور، وجماله في ذات الوقت، هو قدرته المحيرة على أن يستمر عمراً كاملاً أو يضربك فجأة وبشدة للحظات عابرة فقط ولكن بنفس القوة في الحالتين ! الأمر يعتمد فقط على ما سيرتبط من بقايا المنطق ومحددات الزمان والمكان لديك بتلك اللحظة التي يخترق فيها السهم قلبك من جديد!

 وستبقى قدرتك على نسيانه والتعايش معه مرهونة دائماً بفشل محاولاتك في فهم لغزه المحير وأن أول من أطلق سراحه داخل قلبك لا يبرح مكانه رغم كل شيئ، حتى لو كان ذلك هو قناعتك الراسخة باستحالة الوصال، وألمك كلما حدث اللقاء، وغضبك من مجرد الشعور أن هناك من يزاحم من اختاره قلبك في النهاية ليمنحك من ذلك الشعور  الغامض الأحاسيس الجميلة فقط، دون كل ما دونها من الحزن، والألم، والحرمان، والقلق!

فرغم كل شيئ،  يظل هناك دائماً ذلك الجزء الذي ظننت أنه لم يعد موجوداً في فؤادك ..
ذلك الإحساس الذي ظننت أنك لن تشعر به مجدداً ..
تلك النظرة التي ظننت أن عينك لم تعد تذكرها ..
ذلك الارتباك الذي ظننت أنك تجاوزته ..
حتى ترى من أطلق السهم الأول ..
لتكتشف أن كل تلك الظنون مجرد أوهام تخدع بها عقلك الساذج!
نعم .. رغم كل شيئ، ستكتشف أن ذلك السهم مازال هناك .. في قلبك!
و ستتذكر حينها تلك الأبيات:

قَلبي رَهينٌ بالهوى المُقتَبِل
 فالوَيلُ لي في الحبِّ إنْ لَم أعدل
 أنا مُبتَلىً بِبَليتينِ مِن الهوى
شَوقٌ إلى الثاني وذِكرُ الأوَّل

ولكن .. هون عليك يا صديقي، فالمعارك دائماً ما تنتهي بالسلام !

ومع مرور الوقت، يمكنك ان تصل للسلام الداخلي مع ذلك الشعور الغامض، حيث لا غضب، ولا ألم، ولا حزن، ولا حيرة !

نعم، يمكنك أن تختار السلام، وأن تمنح نفسك ذلك الإذن أن تستعيد دون خجل نفس أحاسيس السعادة و البهجة مع من أصابت سهامه فؤادك أولاً أثناء تلك اللحظات التي يمنحها لك القدر للقائه مجدداً، وأن تدرك عن قناعة أن ذلك السهم الأول لم يكن إلا مفتاحاً لأول أبواب تلك الغرفة الخفية داخل قلبك، وأن بقاءه هناك في ذلك الباب  لا يعني مطلقاً خيانتك لمن يرتبط به قلبك الآن ومن تستقر عديد سهامه عميقاً بداخلك بعد أن فتحت أبواباً أخرى جعلتك أكثر سعادة وبهجة واطمئناناً، حتى وإن لم تكن السهام الأولى!

عليك فقط أن تدرك أنه حينما يتعلق الأمر بذلك الشعور الغامض، سترتبط كل الخيوط بطبيعتنا البشرية التي تحدد تعريفاتنا للأشياء بتجاربنا الأولى معها، فقالب الحلوى المفضل لديك سيظل كذلك للأبد، ولكن سيبقى طعم القطعة الأولى في ذاكرتك دائماً!
و كذلك سيبقى تعريفك لذلك الشعور الغامض .. 
الحب !


No comments:

Post a Comment