بقلم : إيهاب الشيمي
في لحظة ينتظرها المصريون منذ أكثر من عشرين عاما،
يفتح المتحف المصري الكبير أبوابه اليوم ليكون شاهداً على أعظم حكاية عرفها
التاريخ: حكاية وطن لا يُهزم، وحضارة لا تُنسى، وشعب لا يعرف اليأس.
إن افتتاح هذا الصرح العظيم ليس مجرد حدث ثقافي أو سياحي، وليس
مشروعاً حكومياً عابراً ضمن قائمة مشروعات البنية التحتية الطويلة التي طالما تشدقت
بها أبواق الجمهورية الجديدة؛ بل إعلان صريح بأن مصر، رغم كل التحديات، ورغم سبق
العديد من الأشقاء لنا اقتصادياً
وتكنولوجياً، لا تزال هي صاحبة الريادة في الحضارة والهوية والذاكرة الإنسانية.
ولا يمكنني هنا عزيزي القارئ أن أرى المتحف المصري الكبير مجرد صرح ضخم تشكل من الحجارة
والزجاج، بل أراه روح مصر المتجسدة في زمن الحروب والاضطرابات التي تحيط بنا من كل
جانب ... أراه رسالة تقول للجميع،
لأبنائها قبل ضيوفها، ولمحبيها قبل أعدائها، أن القوة لا يمكن حصرها في أرقام الاقتصاد أو بريق
التكنولوجيا أو ترسانات الأسلحة، بل في القدرة على حفظ التاريخ، وصناعة المعنى، وتقديم قيمة إنسانية
تتجاوز حدود الزمن. ومهما تغيرت موازين القوى في المنطقة، ستبقى مصر هي حجر
الزاوية التي لو سقطت لانهارت المنطقة برمتها، وستبقى رغم ادعاءات الموتورين وأكاذيب الحاقدين صاحبة
أول حضارة علمت العالم النظام، والكتابة، والعمارة، والروحانية، والفكر.
إن هذا المشروع العملاق تجسيد لقدرة الشعب المصري على الإنجاز مهما
كانت الصعوبات، وكيف أنه خلال وقت ظن البعض أن الظروف الاقتصادية والسياسية قد
تعطل الحلم، كانت الإرادة المصرية تعمل بصمت .. تبني وتخطط، وتواجه التحديات خطوة
بخطوة. إن هذا المشروع ببساطة يحكي كيف اتحدت أحلام العاشقين، وإبداعات
المعماريين، وعقول المهندسين، وجهود العمال، وإصرار الدولة، بل والسلطة البائدة بكل
مثالبها والسلطة الحالية رغم كل ما يوجه إليها من انتقادات وكل ما يشوب أداءها من
سلبيات، كيف اتحدت كل هذه العوامل لتنصهر داخل بوتقة واحدة لتؤكد للجميع إيمان
المصريين بأن دولتهم لا تزال وستظل دوماً قادرة على أن تبهر العالم.
ولأن مصر قلب المنطقة ومحورها التاريخي، يأتي افتتاح المتحف في وقت
يموج العالم العربي بالاضطرابات والنزاعات، ليقف كرمز للاستقرار والثبات بينما
تتغير الخرائط السياسية وتتشابك المصالح الإقليمية، لتبقى القاهرة ثابتة، ولتقدم
للعالم نموذجاً بأن الحضارة الحقيقية لا تعرف السقوط، وأن قوة الدولة الحقيقية
تظهر في قدرتها على البناء وقت الشدة، لا في الاحتفال والتباهي والتعالي على
الآخرين وقت الرخاء.
ويجب أن ألفت انتباهك هنا عزيزي القارئ إلى أن مشهد حضور الرؤساء
والملوك وكبار الشخصيات من مختلف أنحاء العالم هو دليل لا يقبل الشك على مكانة مصر
الدولية والإقليمية. فالمال وحده لا يجذب هذا الحضور، ولا الإعلام وحده يصنع هذا
المشهد. إنما الأمن، والاستقرار، والهيبة التاريخية، والدور السياسي المتوازن الذي
تحافظ عليه مصر في أصعب الظروف. إن وجود أكثر من 79 وفداً رسمياً وحضور أكثر من
ثلاثين رئيس وملك ورئيس حكومة لهو اعتراف صريح بأن القاهرة لا تزال بوابة التاريخ،
ومركز القرار، وجسر التواصل بين الحضارات.
ولكن .. رغم كل تلك الشواهد، دعني أخبرك بما جلب السعادة الأكبر
إلى قلبي هنا .. فذلك الافتتاح ليس فقط للمتحف، ولا تدشيناً للاحتفالات الرسمية. بل
هو في رأيي يتخطى كل ذلك ليمثل لحظة بعث للأمل في قلوب الشباب المصري؛ رسالة تقول
لهم إن وطنهم، مهما أرهقته التحديات، لا يزال قادراً على النهوض، ولا يزال قادراً
على أن يحتل مكانه الطبيعي بين الأمم. إن هذا اليوم ليس تذكرة بالماضي فقط، بل
دعوة للمستقبل، دعوة للعمل، والإبداع، والتمسك بالهوية. فكل قطعة أثرية داخل هذا
الصرح، وكل حجر في جدرانه، ينطق بقيمة الوطن ويدعو أبناءه لأن يكونوا امتدادًا
لحضارته، لا مجرد متفرجين على مجده القديم.
إن المتحف المصري الكبير ليس مجرد مبنى يضم آثار الفراعنة، بل بيت
روح مصر؛ ماضيها الذي يشهد بعظمتها، وحاضرها الذي يؤكد صمودها، ومستقبل شبابها
الذي يحمل الراية. إنه صوت يقول للعالم: هنا مصر. أرض الحضارات، ومهد الإنسانية،
وبلد السلام، والقدرة، والحلم الذي لا يموت.
اليوم، الأول من نوفمبر من عام 2025، لن نحتفل بالمتحف فقط، بل سنحتفل بالروح المصرية
التي لا تنكسر، وبالأمة التي تعرف طريقها
جيداً، مهما حاول الآخرون طمس معالم الطريق!
هنا القاهرة… حيث يبدأ التاريخ، وحيث يُكتب المستقبل.

No comments:
Post a Comment