Saturday, May 18, 2024

تجديد الخطاب .. بين صحيح الدين وأطروحة "تكوين"


بقلم : إيهاب الشيمي


ترددت كثيراً قبل أن أقرر إعادة الكتابة حول مسألة " تجديد الخطاب الديني" التي شغلت مساحة كبيرة من صفحات الجرائد و البرامج الحوارية بعد الإعلان عن تأسيس وإطلاق مؤسسة تكون الفكر العربي، ناهيك عن شبكات التواصل الاجتماعي التي ملأها الجميع صراخاً وعويلاً كثيرة دفاعاً عن مواقفه وشحذاً لهمم مؤيديه، أو وسباباً و هجوماً في أحيان كثيرة على من يعارضونه، للحد الذي وصل لإثارة الأمر في ساحات القضاء واجتماعات مجلس النواب بل ودعوة البعض لتكفير من لا يوافقونهم الرأي والمطالبة بقتلهم !

 

ولن أكون هنا طرفاً في الأمر الذي تحول في رأيي لصراع، ولن أكون منتمياً لأحد الجانبين، ولن أخوض بالتاكيد في أمور فقهية ودعوية، فقدري أدنى من أن أخوض فيما وهب له علماء حياتهم بأكملها، ولكني أريد فقط أن أوضح بعض النقاط التي أظن أنها قد غابت عمن خاضوا هذا النقاش و فقدوا بسبب ذلك الموضوعية المطلوبة في مثل هذه الأمور ..


أول هذه النقاط هو أنه وبالرغم من وجود جامعة الأزهر ومؤسسة "تكوين" في القاهرة، وعلى الرغم من أن الدعوة لتجديد الخطاب الديني جاءت من جانب الرئيس السيسي خلال مؤتمر الشباب في عام 2018، وهو من أكد مجدداً على موقفه في سبتمبر 2021 حين أعلن احترامه للجميع، من يعتقد بأية ديانة بل ومن لا يعتقد على الإطلاق، إلا أن ذلك لا يعني أن الإسلام يحمل الجنسية المصرية فقط، أو أن تلك المهمة مقصورة على علماء الفقه والشريعة والحديث ورجال الدعوة المصريين دون غيرهم، فحين يتجاوز تعداد المسلمين المليار و نصف المليار في أكثر من ثمانين دولة فلا يمكننا حصر تنقيح النصوص في الأزهر، أو أن ننصب يوسف زيدان وإبراهيم عيسى وإسلام بحيري ورفقائهم في مؤسسة "تكوين" رموزاً وزعماء لتيار التنوير والتجديد وتعزيز قيم الحوار وإعلاء مبادئ التسامح في العالم الإسلامي بأسره، متجاهلين بذلك المئات من المجددين ممن سبقوهم على مر التاريخ الإسلامي، والملايين ممن ينتشرون حالياً في العالم بأسره خارج مصر.

 

الأمر الثاني، هو قناعتي أن صحيح الدين الذي أنزله الله سبحانه وتعالى ليصلح لكل الشعوب وكل الأزمان، وليواكب كل التطورات، ليس هو ما يصر معظم رجال الدعوة وعلماء الأزهرعلى حصره في كتب التفسير والسنة والحديث المتوارثة منذ مئات السنين، والتي تم جمعها وصياغتها وكتابتها بناءً على فهم من صاغوها في أزمانهم، وفي إطار معطيات اجتماعية وثقافية وعلمية محدودة مقارنةً بما هو متاح حالياً وبما تم اكتشافه من أسرار وحقائق علمية خلال العصر الحديث!

فقناعتي أن صحيح الدين، هو ما أوحى الله به إلى عبده و رسوله محمد  ليوافق الفطرة السليمة التي فطر الله الانسان عليها والتي لا تختلف أسسها ومعاييرها مهما اختلف الزمان أو المكان أو اللسان أو الثقافة، وتعاليمه هي التي تؤكد قيم الحرية و المساواة والعدل والتكافل، التي تشترك في احترامها كل الأنظمة السياسية والاجتماعية، بل وكل العقائد حتى غير السماوية منها، بما لا يتعارض مع المنطق الصحيح والعلم الثابت بالأدلة القطعية، مع يقيني بوجود المعجزات التي أجراها الله على يد رسله وأنبياءه لهدف معين، وفي وقت محدد أراد به تثبيت أسس الإيمان في قلوب من آمنوا، ودغدغة عقول من لم يؤمنوا ليعيدوا حساباتهم، أو يستمروا في الإيمان بكل ما هو مادي فقط !

 

الأمر الثالث، و هو أن الدين ليس مجرد تعاليم و نصوص تخضع لإعمال كل شخص لعقله على حدة دون أن يكون لديه الخلفية المرجعية اللازمة لقراءة النصوص، وفهم المحتوى الذي نزلت في إطاره، وكذلك استيعابه للصورة الأشمل التي تتيح له فهم مدى ارتباطها ببعضها البعض، بل ونسخ بعضها للآخر في بعض الأحيان. و لو أن الأمر خاضع لتفسير كل منا للنص دون الحاجة لعلوم الحديث والفقه والشريعة والقياس والاجتهاد، بحجة أن الدين علاقة خاصة بين العبد وربه، فلا يمكننا حينها أن ننتقد ما ذهب إليه الملايين من المتطرفين عبر التاريخ الإسلامي ممن أعملوا عقولهم وفسروا النصوص تبعاً لمنطقهم الخاص ليخرج علينا في النهاية جماعات مثل الحشاشين والإخوان المسلمين والقاعدة وداعش وأنصار بيت المقدس، بل ومن لا يقلون خطراً عنهم، وان اعتقد البعض غير ذلك، ممن كانوا يخرجون أسبوعياً في مسيرات كرداسة وعين شمس و المطرية وحلوان في أعقاب الإطاحة بنظام الإخوان المسليمن في 2013!

 

الأمر الأخير، و هو أن أعداء الأمة، الذين أصر  دوماً على وجودهم وعلى استمرارهم في حياكة المؤامرات ضدها رغم إنكار العديدين لذلك،  يجيدون وبدقة فائقة ودهاء شديد تحديد ما يقوض وحدتنا ويدمر هويتنا بداية من تأجيج الصراع الطبقي، ومروراً بمحاولة الفصل بين الجيش والشعب، مروراً بزرع الفتنة بين طوائف الشعب مسلمين ومسيحيين، ونهاية بما يحدث الآن من محاولة استغلال النقاش حول حرية العقيدة وضرورة تنقيح المراجع ومراجعة النصوص الدينية، للتشكيك في أهلية المؤسسات الدينية، و المرور من خلال ذلك إلى التشكيك في الفروع ، وصولاً إلى التشكيك في الأصول و تدمير أي مرجعية يمكن من خلالها مواجهة محاولاتهم لتقسيم الأمة و زرع الفرقة.

 

إن التنقيح والمراجعة وتجديد تفسير النصوص بما يوافق التطور العلمي و اختلاف منطق الأشياء و تغير طبيعة التحديات هو شئ حتمي لا مناص من حدوثه مهما رفض صقور الأزهر ذلك ومهما أصر البعض على عصمة نصوص كتب الحديث والسيرة النبوية، فبالرغم من إيماني الراسخ أن الله أنزل دينه وبعث رسوله بما يصلح لكل زمان ومكان حتى قيام الساعة، إلا أن إيماني أيضاً هو أن تفسير تلك النصوص يخضع لمنطق من قام بالتفسير لحظة قيامه بذلك، وهو ما يتغير بتقدم الزمن وتطور العلوم، فما كان مستحيلاً منطقياً منذ اربعة عشر قرناً، أصبح شديد المنطقية الآن مثل إمكانية الانتقال من طرف العالم إلى طرفه الآخر بين ليلة  وضحاها، أو إمكانية التواصل صوتاً وصورة مع شخص يبعد عنك آلاف الأميال، أو حقيقة اكتشاف أن الأرض كروية تحول قوى الجاذبية دون أن نسقط من على سطحها إلى الفضاء الواسع، أو أن يصيبنا الدوار نتيجة دورانها حول نفسها !

 

 و لكن ما علينا أن ندركه ونعيه هو أن ذلك التنقيح وذلك الحوار حول منطقية تفسير النصوص وملائمتها للمنطق ومواكبتها للتطور يجب أن يتم من خلال القنوات الصحيحة ومن خلال من نثق في علمهم ونتأكد من إخلاصهم لدينهم وأوطانهم وليس لسلطة حاكمة، أو أيديولولجية فانية، أو جماعة ومؤسسة بعينها، أو لقوى خارجية تريد استغلال ما يفرقنا، أو حتى لنرجسية حمقاء يفترض معها من يريد التغيير صحة منطقه هو فقط دون غيره!

 

إن التجديد في الخطاب الديني، و مراجعة النصوص و تنقيحها ليس معياره الوحيد هو الرغبة في التغيير ومواكبة التطور، أو الإعجاب بمنطق من يدعو إليه دون معرفة دوافعه الحقيقية، بل هناك من المعايير ما يجب أن نضعه كذلك في الحسبان، حتى لا يحدث في النهاية ما حدث في دولنا خلال السنوات الأخيرة من جديد، حين كانت الرغبة في التغيير السياسي حتمية، فاندفع الكثيرون وراء من انقضوا على مسيرة التغيير دون معرفة دوافعهم و ولاءاتهم، فكانت النتيجة أن استبدلنا فساد الطغم الحاكمة بفاشية الجماعات  الدينية، و قمع و دكتاتورية الحكام بفوضى اللادولة !

 

حفظ الله مصر و شعبها و جنبها شر الفتن.

Monday, November 27, 2023

ما يحتاجه الرئيس ... !

 بقلم: إيهاب الشيمي


رغم وقوفي بثبات و دون تردد في جانب الوطن و الرئيس والجيش كخيار لا رجعة عنه ولا داعٍ لمناقشة حيثياته في هذه المرحلة الحرجة من عمر الوطن والمنطقة، بل والعالم بأسره، إلا أنني لست مؤيداً أو موافقاً من الأساس على انخراط وسائل الإعلام المصرية الرسمية وشبه الرسمية والمحسوبة على على السلطة سواء كانت تلك المرئية أوالمسموعة أوالمقروءة ، على مدارالساعة، في سرد إنجازات الرئيس خلال السنوات العشر الماضية، وكأنها جزء من حملته الانتخابية الخاصة وليست جزءاً من منظومة الدولة المصرية التي لا يجب أن تنحاز لمرشح بعينه !

قناعتي الراسخة هي أن ما يحتاجه الرئيس فعلاً ليقف بقوة في وجه مخططات القوى الخارجية و عملائها في الداخل هو الدعم الحقيقي له ولسلطاته الدستورية من خلال كيانات سياسية قوية تمثل الشعب المصري وتعكس حجم تأييده لقيادته، وليس من خلال الإعلام الموجه أو برلمان الصوت الواحد، أوالمستقبل الذي ينحصر في منظورالعين الواحدة!

ما يحتاجه الرئيس هو انتهاج سياسة إعلامية جديدة تعتمد على الشفافية مع الشعب، وتنمية الوعي لدى الجميع، كبيرهم قبل صغيرهم، ومخاطبة الخارج بلغته التي يفهمها لا بشعاراتنا الجوفاء التي استهلكناها عبر عقود من الزمن ضاعت علينا فيها الكثير من الفرص!

ما يحتاجه الرئيس هو توظيف من يمتلكون الخبرة العملية لإدارة الملفات الشائكة بصورة علمية وليس من يحظون بالثقة على حساب الإمكانيات العلمية والخبرات الحقيقية والرؤى الثاقبة !

ما يحتاجه الرئيس هو أن تتخلى الحكومة عن النظرة الاستعلائية تجاه الشعب وأن تتوقف فوراً عن التعامل معه على أنه مجرد أداة تتلاعب به وتصنفه حسبما تقتضي الأمور، فتنصبه قائداً ومعلماً وسيداً يجب طاعته حين تحتاج دعمه، وتعتبره طفلاً أخرقاً وعبئاً وإرثاً ثقيلاً حين تسوء الأحوال وتنحرف منها دفة قيادة الأمور!

ما يحتاجه الرئيس هو أن تبذل تلك السلطة كل ما في وسعها لتشرح ببساطة وسلاسة ودون تعقيد لرجل الشارع، وللفلاح في قريته، وللعامل في مصنعه، بل وللشاب اليافع في مدرسته وجامعته، ماهية التحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية التي تحيط بنا من كل اتجاه، وأهمية ما تم من إنشاء بنية تحتية كاملة، وكيف تم تقليص نسبة البطالة، وماهية الأسباب الحقيقية للزيادة غير المسبوقة لمعدلات التضخم، وعوامل التراجع الكارثي لاحتياطات النقد الأجنبي، وتفاصيل الإجراءات التي سيتم تنفيذها لتدارك كل ذلك، وتأثير تلك الإجراءات على كل فرد منهم في الحاضر و المستقبل بدلاً من تركهم فريسةً سهلة للمغرضين والعملاء والجهلاء!

ولكن .. يبقى الشيئ الأهم في قائمة ما يحتاجه الرئيس هو أن يدرك أن اختياره للقيادة، منذ عقد من الزمان، كان قراراً من الشعب فرضته ضرورات مرحلية على رأسها حفظ وحدة التراب الوطني و الإبقاء على الحد الأدنى اللازم من سيادة الدولة، وأن أمامه خيارين لا ثالث لهما، أولهما هو البقاء داخل تلك العباءة وتذكير الشعب من آن لآخر بأياديه البيضاء لإنقاذ الوطن ومحاربة الإرهاب، وتطوير قدرات القوات المسلحة، وإعادة هيكلة منظومة العلاقات الخارجية، وهي أمورلا ينكرها إلا جاهل أو حاقد ولكنها رغم كل شيئ تندرج تحت بند المهام الآنية قصيرة الأجل،  أو الخيار الثاني الذي يتطلب انتقاله من مجرد قائد مرحلي فرضته الظروف إلى قائد تاريخي يسعى لتحقيق أهداف أكثر استدامة وأعظم تأثيراً وصولاً إلى التنمية المستدامة في جميع المجالات وتحقيق الرخاء الذي يتطلع إليه كل مصري من أجل مستقبل أفضل لأبنائه !

ولا اظنك عزيزي القارئ ستختلف معي في أن الخيار الثاني، لو أراد الرئيس أن يكون ذاك هو ما يريد، يتطلب منه ما هو أصعب بكثير  من الخيار الأول !

فهو يتطلب قراراً صعباً بضرورة القضاء على كل الوجوه التي سئمها الجميع ، و العقليات المهترئة التي لا يمكنها الخروج من حقبة القرن الماضي، و الاستراتيجيات الاقتصادية العقيمة التي لا تعتمد في تنمية الموارد سوى العودة لمنطق أمراء المماليك بتنمية الموارد عن طريق فرض المزيد من الضرائب و الاستمرار في زيادة الرسوم يوماً تلو الآخر دون طرح رؤية حقيقية للحلول ..

كما يتطلب رؤية لتنمية الصناعة بشكل حقيقي عن طريق دعم استيراد مستلزمات الانتاج والعمل على تكوين خريطة كاملة لكيفية استغلال واستخراج الموارد المتاحة، و خلق شبكات الطرق والطاقة الجديدة والمتجددة بالشكل الذي يدعم هذه الصناعات، وهو ما يتطلب كذلك تصنيف تلك الصناعات وتحديد أولويات دعمها طبقاً لتأثيرها على الاقتصاد الوطني وإمكانية تكاملها مع صناعات و أنشطة أخرى لخلق فرص عمل اشمل و أوسع، و ليس فقط قصر الدعم على منح المزيد من الإعفاءات الضريبية و خفض رسوم الوقود و الطاقة التي لا تصب في النهاية سوى في خانة أرباح أباطرة الصناعة فقط ..

رؤية تشمل استراتيجية حقيقية لتنمية الصادرات ، و جذب الاستثمارات لتنمية الاحتياطيات الحقيقية والفاعلة للنقد الأجنبي، و ليس تلك الاموال الساخنة التي تعتمد فقط على سعر الفائدة المرتفع، وهو ما سيسفر في النهاية عن ضبط سعر الصرف بصورة هيكلية تضمن مصلحة المستثمر و الدولة في آن واحد، و ليس فقط عن طريق فرض اللوائح والقوانين التي تقيد التعامل في النقد الأجنبي وتحد من جاذبية مصر لفرص الاستثمار الأجنبي المباشر!

رؤية حقيقية للاستفادة من الموارد السياحية الطبيعية و الأثرية تشمل تغيير عقلية القائمين على قطاع السياحة أنفسهم بدءاً من القمة حيث يقبع رؤساء هيئات تنمية و تنشيط السياحة و نزولاً إلى أصغر حارس على مقبرة وسط الصحراء، و مروراً بأولئك الذين كسروا ذقن توت المسكين و أعادوا لصقها بالغراء في المتحف المصري، بل و تمتد لتغيير نظرة العاملين بقطاع السياحة و الشعب نفسه للسائحين كسفراء لنا حين عودتهم لديارهم، و ليس كنعاج يجب أن نجتز آخر شعرة صوف من على أجسادهم قبل أن يمكنهم المغادرة ..

وقبل ذلك كله .. رؤية لتطوير آليات و أساليب القيادة نفسها، آليات تحكمها خطوط عريضة لمعايير تقبل النقد بعيداً عن مشاعر الغضب أو الذاتية، و تحدد معايير السعي لطلب النصيحة من أولي الخبرة و الكفاءة، و تضع قواعد الحالات التي يجب فيها الاعتراف بالخطأ حين يتطلب الأمر ذلك لضمان الشفافية الكاملة، تلك الآليات و القواعد التي لا بد من إرسائها بدلاً من اللجوء دوماً لادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة و فساد كل رأي يخالف رأي القيادة، و هو ما لن يفلح سوى في إعادتنا لمرحلة ما قبل يناير التي أكد الرئيس نفسه في عدة مناسبات أنها كانت حتمية، و أنها من جاءت به من بين صفوف الشعب ليكون عوناً له على تحقيق مطالبه !

 ببساطة .. ما يحتاجه الرئيس دون دعوات، ودون هاشتاجات، ودون طلبات للتفويض ودون مسيرات ودون لافتات ودون صخب هو أن يشعر المصريون أنهم شركاء حقيقيون في نجاح الوطن و ليس مجرد أدوات يمكن استدعاؤها حين يتعلق الأمر بتحمل أعباء الإصلاح أو رفض دعوات الفوضى، وحينها فقط سيجد أعداء الوطن صعوبة كبيرة في إثارة القلق و إشعال الفتنة و إسقاط الدولة باستغلال نصاب هارب و قناة عميلة و جماعة مارقة، لأنهم سيضطرون حينها لمواجهة أمة بأكملها و شعبٍ بكامل أطيافه و انتماءاته، و ليس مجرد شخص الرئيس فقط!



حفظ الله مصر !

 

Thursday, October 26, 2023

غزة .. بين نصرة القضية والأهداف الخفية !

بقلم:إيهاب الشيمي


قد يعد الكثيرون كلماتي هنا من باب الإغراق في نظريات المؤامرة والمؤامرة المركبة، ولكن  صفحات التاريخ التي لا يقرأها الكثيرون عادة، أو من يتعمد من قرأها أن يتجاهل إمكانية تكرارها، تحمل الكثير من الإشارات والتنبيهات التي لا نلتفت إليها في إطار لهفتنا لمتابعة حلقة جديدة من الصراع مع الكيان الصهيوني والإمبريالية العالمية الجديدة المتمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية !

 

ذلك الصراع الذي نستدعي فيه مع كل حادث جديد مشاعر القهر والأسى والألم والكراهية و الغضب والإحساس بالعجز الشديد لننتهي أخيراً بالبحث عن نعمة النسيان والمضي قدماً في مسيرة لا نريد أن نتعلم من عثراتنا العديدة خلالها

 

فمثلما فعلت حماس و إسرائيل في نوفمبر 2008 باستهداف كلا منهما للآخر عقب فترة طويلة من الهدنة، فعل الإثنان نفس الشئ في يوليو 2014، و استخدما نفس السيناريو الذي يبدأ بقصف سرايا الجهاد الاسلامي و حماس لجنوب إسرائيل بالصواريخ، لتبدأ إسرائيل بعدها عملية واسعة تشمل القصف المركز وتنتهي بالاجتياح البري، ليسقط خلالها الآلاف من الضحايا الفلسطينيين بين قتيل و جريح مقابل بضعة عشرات فقط من الإسرائيليين، و ذلك دون مكسب عسكري او سياسي او استراتيجي يمكن حسابه للطرف الفلسطيني في الصراع، بل و دون تحقيق الطرف الإسرائيلي، الذي يدعي النجاح والنصر في كل مرة، للهدف المعلن من عملياته وهو القضاء على بؤر الإرهاب في غزة،  وتحييد خطر الصواريخ التي تهدد المستوطنين للأبد!

 

والآن .. وبعد مرور تسع سنوات كاملة في 2023، يتجدد نفس المشهد من جديد ولكن مع الكثير من الإغراق في الدموية والوحشية والعنف المفرط هذه المرة، مع السماح في حادثة غير مسبوقة في تاريخ الصراع بين الطرفين، بسقوط الآلاف من الضحايا على الجانب الإسرائيلي بين قتيل وجريح من المدنيين والعسكريين، ونزوح وإخلاء الآلاف من المستوطنين من غلاف غزة، بل وأسر المئات من المدنيين وأفراد الجيش الإسرائيلي، والعشرات من حاملي جنسيات الولايات المتحدة وأوروبا بما يمنح رعاة إسرائيل في واشنطن وبروكسل الحرية لإعطائها الضوء الأخضر لارتكاب كل ما تشاء من جرائم في حق المدنيين في غزة حمايةً للإسرائيليين وضماناً لعودة رهائنهم، وحفاظاً على الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط كما يدعون!


ولكن ما لم يتفطن إليه الكثيرون هنا .. وما يمكن أن يمثل إشارة خفية تربط كل تلك الأحداث، هو ذلك التشابه الغريب في الواقع السياسي و الاقتصادي لكل من "حماس" و إسرائيل في الحالات الثلاث، ففي العام 2008 كان الانقسام يجتاح المجتمع الإسرائيلي للدرجة التي ظهر معها لأول مرة و بشكل واضح انقسام الأحزاب الرئيسية على نفسها مما أدى في النهاية لتولي أولمرت و هو من حزب "كاديما" المنشق عن "الليكود" لمقاليد الأمور، و هو ما كان يجب أن يتوقف فوراً حفاظاً على تماسك الدولة العبرية، و الذي كان لا بد لها من خطر حقيقي يوحد أطرافها و فرقائها السياسيين تحت لواء إسرائيل الأم، و هو ما قدمته حماس لهم على طبق من ذهب.


بينما نجد على الجانب الآخر من المشهد في العام ذاته، ما لا يمكننا إغفاله من الأزمة المالية الخانقة التي وصلت إليها الحكومة المقالة في غزة التي ترأستها حماس في انشقاق غير مسبوق عن السلطة الوطنية في رام الله في العام 2007، و هي الأزمة التي هددت بفقدان حماس لشعبيتها التي اكتسبتها بين أوساط الفلسطينيين بفضل لعبها على وتر فشل السلطة في تحقيق آمال الشعب الفلسطيني، و ليس اقتناعاً من ذلك الشعب بقدرة حماس على حل نفس المشكلات أو تحقيق ذات الآمال!


و بعد مرور ست سنوات كاملة، و تحديداً في يوليو 2014، وجدنا أنفسنا و نحن نعيش نفس السيناريو، بنفس المعطيات، بل و بنفس الأشخاص و الأحزاب، فنتنياهو الذي تزعم الدعوة لتدمير غزة في 2008 و فاز على إثرها برئاسة الوزراء في مارس 2009 خلفاً لأولمرت، هو نفسه من يتولى رئاسة الوزراء عن حزب الليكود أيضاً، و ها هما إسرائيل و حماس تمران بنفس المشكلات التي كانتا تمران بها في العام 2008 مع اختلاف بسيط في بعض التفصيلات، فنتنياهو يسعى لتوحيد الإسرائيليين تحت زعامة الليكود، بعد الاحتجاجات و الانقسامات التي شهدتها الساحة الإسرائيلية في السنوات الثلاث الماضية تزامناً مع الربيع العربي لأسباب اقتصادية و اجتماعية متعددة من جهة، و لأسباب تتعلق بالانشقاق الناتج من الخلاف بين تيارات اليمين القومي و اليمين الديني المتشدد و بين التيارات التنويرية لمرحلة ما بعد الصهيونية، و تأثير ذلك الخلاف على تصور آفاق التسوية مع الفلسطينيين، بل و انقسام جبهة اليمين ذاتها بعد إقرار فرض الخدمة العسكرية الإجبارية على طوائف الحريديم المناهضة للصهيونية كتيار علماني و التي كانت من الطوائف المعفية من هذه الخدمة الوطنية طبقاً لتعاليمها المتشددة

 

و ها هي حماس من جديد على الجانب الآخر من المشهد في 2014 تبحث عن طوق نجاة يخلصها من حقيقة فقدانها للكثير من التعاطف الشعبي الداخلي و الإقليمي و الإسلامي كحركة مقاومة وطنية بعد مواقفها السياسية الأخيرة من العديد من ثورات الربيع العربي، و يخلصها من ناحية أخرى من كارثة عدم قدرتها على دفع رواتب موظفيها في القطاع، و كذلك التنصل من اتفاق المصالحة مع "فتح" الذي أضطرت لإتمامه للوفاء بتلك الالتزامات و تجنب ثورة شعبية ضدها في غزة قد لا تستطيع ميليشياتها السيطرة عليها.


نعم، عزيزي القارئ، ما أود أن أقوله وبكل بساطة، هو أن الحرب بين الطرفين اندلعت في المناسبتين لتخدم مصالح الإسرائيليين و حماس على حد سواء،  بل إنها نشبت أيضاً في ظل تولي نفس الأحزاب ونفس الأشخاص للسلطة في إسرائيل، ولا أظن أن تغييراً قد حدث في قيادة حماس كذلك!

 

كما سبق و ذكرت هنا، فكل تلك التنبيهات و الإشارات التي يبعث لنا بها كتاب التاريخ، لا تمكنني من أن أنظر للمشهدين بصورة منفصلة عما يحدث الآن تحديداً في غزة في العام 2023، فمن يتزعم المشهد في الحكومة الإسرائيلية الآن هو بنيامين نتنياهو من جديد، وما يحدث في غزة وجنوب إسرائيل حالياً بكل دمويته وتهديداته الإقليمية والدولية،  واستدعاءاته  الإنسانية و التاريخية ، ومخاطره الأمنية والاقتصادية، يغطي بشكل كامل على كل ما سواه من انقسامات داخلية كادت أن تدمر إسرائيل من الداخل بعد إصرار نتنياهو على تمرير قانون السلطة القضائية الجديد، والذي يمنح رئيس الوزراء ما يمكن أن نسميه سلطة مطلقة تتجاوز سلطات المحمكة الدستورية، وهو ما أشعل ثورة من الغضب في كافة قطاعات المجتمع الإسرائيلي، بل وفي البيت الأبيض والكونجرس الأمريكي كذلك، وأطلق العنان لمئات الآلاف من الإسرائيليين ليخرجوا للتظاهر ضد حكومة نتنياهو ونواب الكنيست لعدة أشهر في كافة أنحاء إسرائيل، وهو ما امتد كذلك ليشمل انقساماً رهيباً داخل جيش الدفاع الإسرائيلي، وعلى رأسه وزير الدفاع يوآف غالانت الذي انقلب على نتنياهو بسبب ما أحدثه مشروع ذلك القانون من شرخ غير مسبوق داخل المؤسسة العسكرية، حيث هدد العشرات من الضباط الكبار بالاستقالة من الخدمة، وامتنع الآلاف من جنود الاحتياط عن الامتثال للأوامر الصادرة لهم حتى يتراجع نتنياهو عن خطته لتعديل ذلك القانون.

 

وقد يعتبرني البعض ممن يقرأ هذا المقال متحاملاً على رجال المقاومة الفلسطينية أومنكراً لتضحيات الشهداء منهم أو مجحفاً لما يقومون به من أجل رؤية راية فلسطين وهي ترفرف على أرضها التي اغتصبها الاحتلال برعية كاملة من الغرب لما يزيد على سبعة عقود، والعكس تماماً هو الصحيح، فلا أحد يمكنه أن ينكر تلك التضحيات أو ينفي ذلك الحق في وطن مستقل وحر، ولا أظن أن هناك عربياً واحداً لم يسعده أن تتذوق إسرائيل ولو رشفات قليلة من نفس كأس الخوف والرهبة والنزوح وخيبة الأمل والانكسار كما حدث يوم السابع من أكتوبر، ولكن ما أنا على قناعة تامةٍ به هو أن هؤلاء المجاهدين والشباب الوطني قد تم التغرير بهم تحت مسميات دينية ووطنية لخدمة أهداف قادة حماس التي تحقق في المقام الأول الخطة التوسعية لملالي الثورة الإسلامية في إيران، مثلهم في ذلك مثل حزب الله في لبنان وميليشيات الحوثي في اليمن، والحشد الشعبي في العراق، وهي الأهداف التي تتقاطع في عدة نقاط أساسية مع العديد من الأهداف الاستراتيجية السياسية والاقتصادية والعسكرية لواشنطن وحلفائها، وتساهم بشكل كبير في رسم خريطة الشرق الأوسط الجديد، لتصب في النهاية، وبشكل ملحوظ، في مصلحة إسرائيل!


وما أريد أن ألفت انتباهكم إليه هنا أيضاً، هو ذلك الدور الخفي لمن يدعون نصرة القضية الفلسطينية واحتكار الحديث باسم الشعوب العربية، وهو ذلك الدور الذي يعتمد على التركيز على ظاهر الأحداث، و التعتيم على ما يكمن خلفها فعلياً من خلال اللعب على أوتار التعاطف مع الضحايا من الأطفال والنساء والمدنيين الأبرياء،  وعرض مشاهد الأشلاء و الدماء و الأجساد الممزقة، بغرض إلهاء الجميع عن المخطط الحقيقي الذي يشمل تمزيقاً من نوع آخر .. ولكن للأوطان هذه المرة!

فالمخطط، لمن يريد أن يقرأ المشهد منذ إعلان قيام دولة إسرائيل، هو تفريغ الأراضي المحتلة بالكامل من سكانها، ودفعهم خارجها هرباً من القصف والفقر والجوع والمرض، ليتوجهوا بالتالي إلى أقرب ملجأ آمن، وهو "سيناء" بالطبع في هذا الحالة، لتجد مصر نفسها في النهاية أمام خيارين لا ثالث لهما ..

 

الأول أن تغلق الحدود في وجه النازحين ليتم اتهامها بالتجرد من الإنسانية وترك أبناء عروبتها ليلاقوا حتفهم المحتوم داخل غزة دون شفقة أو رحمة، ولتجد السلطة نفسها في النهاية أمام نقد واتهامات دولية بخرق القانون الإنساني، وغضب شعبي جارف "عفوي أو مخطط له" يعود بعقارب الساعة من جديد لسنوات عدم الاستقرار والتراجع الاقتصادي والأمني والانفصال بين الشعب والسلطة الحاكمة!

 

أما الثاني، فهو أن تستسلم لتلك الضغوط، وتبني قرارها على حسابات خاصة يمكن من خلالها السماح بتواجد اللاجئين في سيناء، لتصبح غزة مجرد منطقة عازلة فارغة تضمن أمن إسرائيل، بينما تصبح سيناء  في المقابل قاعدة لانطلاق ونشر الفكر الجهادي الذي لن يكون باتجاه إسرائيل هذه المرة، ولكن باتجاه مصر وشعبها وقيادتها وأمنها واستقرارها، لتسقط في النهاية آخر قلاع الأمة العربية الصامدة في وجه المخطط الشيطاني تحت وطأة الضربات المتتالية لقوى الاستعمار، ولكي يتمزق بعدها جسد الوطن العربي بأكمله، ولكن دون أن يتم نشر مقاطع لأشلائه على شاشات التلفاز، ودون أن يجد من يتعاطف معه في باحات مجلس الأمن والأمم المتحدة، أو حتى على منصات التواصل الاجتماعي!

 

و لا يسعني هنا عزيزي القارئ إلا أن أذكرك أن خطط الصهاينة ورعاتهم في واشنطن ولندن وكافة عواصم القوى الاستعمارية لرسم خريطة "إسرائيل من الفرات إلى النيل" لم تتوقف يوماً وإن ظن البعض عكس ذلك، فهي مستمرة من خلال توزيع العديد من الأدوار على الكثيرين في منطقتنا، وما أكثرهم،  من الباحثين عن الثروة، أو الباحثين عن السلطة، أو الساعين لتحقيق أحلامهم التوسعية، أو أولئك الحمقى المنساقين خلف خطابات التكفير والتفجير!


في النهاية، لست أطالبك بتبني نظرية المؤامرة كما أفعل أنا في كثير من الأحيان، و لا بالتخلي عن إيمانك، أن كنت ممن يعتقدون ذلك، بأن تلك النظرية مجرد مهرب للعرب للتخلي عن حقيقة فشلهم في مواجهة التحديات، و لكني ارجو منك إعادة النظر في المشهد برمته كي لا تمر المزيد من الأجندات، وسط انشغالنا بالنحيب على المزيد من الضحايا الذين نفقدهم يوماً بعد الاخر، والانكباب على تخوين كل منا للآخر، بينما يسعى العدو لتوحيد صفوفه على اشلاء شهداءنا وشظايا أوطاننا المتناثرة على تلك البقعة البائسة المسماة بالشرق الأوسط!

 

نعم عزيزي القارئ، إما أن نستفيق، وإما أن ننتظر، كالعادة، الفصل القادم من المسرحية .. حين تتأزم الأمور من جديد هناك في إسرائيل و على الجانب الآخر لدى حماس في غزة، و الأهم .. حين تريد واشنطن تمرير بند آخر من بنود المؤامرة، و لا داعي أن أرسل لك بطاقة دعوة لحضور المسرحية .. فسنكون جميعاً في الصفوف الأولى من المتفرجين، رغماً عن أنوفنا!

 

حفظ الله مصر.

 


Sunday, February 27, 2022

شرح المعلم سلطان .. في حرب الروس والأوكران !

 


بقلم: إيهاب الشيمي

"ابوك هيسيب البيت يا معلم سلطان .. البيت دة هيتطربق على دماغ أهالينا يا أبو السلاطين .."

هكذا كان رد كمال (أحمد زكي) على أخيه سلطان (سعيد صالح)  بصوت أجش يشبه صوت "المعلمين على القهوة" حينما اعترض عليه سلطان  قائلاً "انت بتقول كلام يصعب على أمثالنا فهمه .. كلمنا بالهجايص !" أثناء الاجتماع الطارئ الذي ضم كذلك عاطف (يونس شلبي)  لبحث التداعيات الاقتصادية والاجتماعية لزواج أبيهم "رمضان السكري" من "الست سونة" !

هذا المشهد من مسرحية "العيال كبرت" هو أول ما تبادر إلى ذهني وسط موجة السخرية والفكاهة التي رافقت متابعة ملايين المصريين للأزمة الأوكرانية، وحصرهم تأثيرات تلك الأزمة في تحقيق أحلامهم بالزواج من اللاجئات الأوكرانيات الشقراوات بارعات الجمال، أو في اعتقادهم أن تلك الأزمة هي فرصة مصر التاريخية في أن يكون غازها بديلاً لأوروبا عن الغاز الروسي، و كيف اننا "هنبيع ونكسب وتبقى الأشيا معدن" !

فمنذ تصاعد وتيرة الأحداث في شرق أوروبا واشتعال الموقف منذ أسابيع، بدأ المصريون في الاهتمام بتلك الأزمة، وأسبابها، وتداعياتها، وكعادتهم، فهم يتكاسلون عن البحث بأنفسهم عن المعلومة من مصادر موثوقة ومختلفة، بل يفضلون اقتباس ما يمكن اقتباسه من الأحاديث الجادة على المقاهي، أو من مذيعي برامج "التوك شو" غير المتخصصين، الذين يبحثون عن الإثارة وليس عن تقديم المعلومة !

وفي جنبات ذلك المشهد، هناك من يصفق لبوتين ويبدي إعجابه الشديد به، وهناك من يدعو عليه بالمرض والفناء، وهناك من يتهم أوروبا والولايات المتحدة بالتخاذل، وهناك من يبدي مساندته لقراراتهم التي تدعم الديمقراطية الوليدة في دول الاتحاد السوفييتي السابقة ضد تغول روسيا الاتحادية ورغبتها في فرض وصايتها على الدول المحيطة، وهناك من يقول أن تلك الحرب على بعد آلاف الأميال منا ولا داعي لكل ذلك التوتر، وهناك من يروج بشدة أن الكوكب كله في الطريق لحرب عالمية ثالثة لن تبقي ولا تذر !

و حتى لا أخطئ خطأ "احمد زكي" حينما شرح أسباب وتداعيات زواج أبيه بمفردات "مجعلصة" وتفاصيل "متخصصة"، أردت أن ألخص في هذا المقال ما يمكنك من خلاله عزيزي القارئ أن تفهم الأسباب وتقرأ التداعيات بصورة مبسطة، ولكن بعيداً قدر الإمكان عن "الهجايص" !

قد يبدو السبب المعلن للتدخل العسكري في أوكرانيا من الجانب الروسي هو حماية الأقلية الروسية في شرق أوكرانيا، بينما تروج واشنطن وحلفاؤها لفكرة أنه غزو شامل يمهد لخطة أكبر حجماً وخطراً، بينما الحقيقة مختلفة تماماً عما يريد هؤلاء أن يقنعوك به !

فروسيا تعلن أن تدخلها العسكري في أوكرانيا محدود المدة والانتشار الجغرافي لتأمين سلامة الأقليات الروسية في منطقتي لوغانسك و دونييتسك الواقعتين في أقليم الدونباس شرق أوكرانيا، وهو تماماً المبرر الذي استخدمته لضم شبه جزيرة القرم الواقعة جنوب شرق أوكرانيا على البحر الأسود في عام 2014، ولكي تعرف عزيزي القارئ ما صلة كل تلك المناطق ذات الأسماء الصعبة ببعضها، يمكنني أن ألخص لك الأمر في أن كل تلك المناطق كانت تابعة للاتحاد السوفييتي وتحديداً لجمهورية "روسيا السوفييتية"، ولكن قامت قيادة الحزب الشيوعي السوفييتي بإعلان ضمها لجمهورية "أوكرانيا السوفييتية" لتحقيق مكاسب سياسية داخل اللجنة المركزية للحزب، ففي النهاية، كل ذلك مجرد نقل لمسؤوليات الإدارة داخل إطار "الاتحاد السوفييتي" أو بمعنى أدق "زيتنا في دقيقنا"  كما يقول المثل الشعبي المصري!

ولكن الزيت انفصل عن الدقيق بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991, وأصبحت أوكرانيا و روسيا كيانين منفصلين يتمتعان بالسيادة والاستقلالية، وفقدت روسيا بالتبعية تلك الأقاليم لصالح أوكرانيا، تماماً كما فقدت أقاليم أخرى لصالح جمهوريات سوفييتية سابقة، وهو ما جعل سكان هذه المناطق مجرد أقليات عانت من معاملتها كمواطنين من الدرجة الثانية، بل وتعرضت للعنصرية والاضطهاد بعد تولي أنظمة تابعة أيديولوجياً وسياسياً للغرب مقاليد الحكم في أوكرانيا منذ عام 2014 فيما عرف بالثورة البرتقالية !

على الجانب الآخر، تروج الإدارة الديمقراطية في واشنطن بقيادة بايدن، وحليفتها البارزة لندن بقيادة غريب الأطوار بوريس جونسون لفكرة ان التدخل الروسي هو مجرد مقدمة لخطة أكبر تهدف إلى تحقيق حلم "الطاغية الدموي بوتين"، على حد وصفهم، بإعادة رسم خريطة أوروبا من خلال ضم روسيا لكل الأراضي التي فقدتها وإحياء الإمبراطورية الروسية العظيمة كما كانت قبل قيام الاتحاد السوفييتي في عشرينيات القرن الماضي، وأن الديمقراطية والحرية في أوروبا كلها، والعالم من خلفها، ستتعرض لما هو أسوأ مما فعله "هتلر" لو أن بوتين لم يجد من يوقفه ويجهض خطته المزعومة !

ولكن .. عليك أن تدرك عزيزي القارئ، أن كل تلك المبررات، حتى وإن كان بها جزء يسير من الحقيقة، ما هي إلا مواد للاستهلاك المحلي ومحاولة لرسم صورة زائفة لتلك الأنظمة أمام شعوبها لتبدو بمظهر المنقذ للأقليات المستضعفة، أو المدافعة عن الحرية في وجه الطغاة !

فالحقيقة الوحيدة هي أن الولايات المتحدة وحليفاتها في أوروبا استخدموا دول أوروبا الشرقية السابقة، والتي كانت جزءاً من منظومة الأمن السوفييتية، كوسيلة للضغط على روسيا أمنياً وعسكرياً من خلال ضم هذه الدول للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلنطي "النيتو" ليمكن للحلف الامتداد شرقاً حتى حدود روسيا الاتحادية ضمن حزمة من الامتيازات الاقتصادية والتجارية التي تمنح شعوب هذه الدول الرغبة في التعاون مع الغرب وتضغط على حكوماتها للاستمرار في التعاون مع واشنطن والاتحاد الأوروبي، بينما الحقيقة المؤلمة أن واشنطن والنيتو تستغل هذه الدول وشعوبها كمجرد مناطق عازلة موالية لها لتضمن بقاء التهديد الروسي بعيداً عن حدود الحلف الشرقية، بل وما زاد الطين بلة هو أن "النيتو" بدأ في نشر أسلحة تكتيكية واستراتيجية في تلك الدول، بل وبناء قواعد عسكرية ضخمة في بولندا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا مما شكل تهديداً مباشراً لروسيا، فإطلاق صواريخ تكتيكية "فرط صوتية" (وهي التي تحلق بسرعات أضعاف سرعة الصوت) من هذه القواعد، سيجعلها تصل إلى أهدافها في موسكو من هذه القواعد خلال أقل من عشر دقائق بحيث لن تسمح حتى بالتحذير منها أو البدء في إجراءات الرد المضاد.

وقد تتساءل عزيزي القارئ، ولماذا تحركت روسيا عسكرياً ضد أوكرانيا تحديداً وليس ضد دولة أخرى من تلك الدول؟! والإجابة بكل بساطة هو أن كل هؤلاء أعضاء بالفعل في حلف النيتو، وأي اعتداء على أيٍ منها سيفعل اتفاقية الحلف ليقوم بالدفاع عنها والدخول في حرب مباشرة مع روسيا قد تدخل العالم في حرب عالمية لا يعرف إلا الله مداها، ولذلك تحديداً ظلت واشنطن وحليفاتها تماطل في ضم أوكرانيا للحلف منذ أكثر من سبعة أعوام لكي تجعل منها مجرد طعم تستدرج به روسيا نحو مستنقع الحرب دون أن تكون مجبرة على الدفاع عنها في مواجهة مباشرة مع موسكو! وفي هذا الإطار قام الرئيسين الأوكرانيين بوروشينكو و زيلينسكي بإصدار قوانين تمنع استخدام اللغة الروسية بالرغم من وجود ثمانية ملايين أوكراني يتحدثون الروسية وينحدرون من أصول روسية، وهما من رفضا تنفيذ اتفاقية مينسك التي رعتها فرنسا وألمانيا لمنح تلك الأقاليم  في الدونباس الحكم الذاتي تحت العلم الأوكراني، وهما من أقاما سدودا لمنع وصول المياه للأقاليم ذات الأغلبية الروسية في القرم، وزيلينسكي الرئيس الحالي هو نفسه من أعلن منذ عدة أشهر عن أن بلاده لديها قدرات تمكنها من انتاج أسلحة نووية ستهدد روسيا في المقام الأول دون غيرها!

وهكذا يمكنك عزيزي القارئ أن ترى كيف كانت الرئاسة الأوكرانية، منذ الثورة البرتقالية التي دعمتها واشنطن عام 2014 لتنصيب نظام موالٍ لها في كييف، مجرد دمية في يد واشنطن لتنفيذ مخططات استفزاز موسكو بغض النظر عن مصلحة الشعب الأوكراني، وهو ما اضطر موسكو لطلب ضمانات أمنية من النيتو لحماية مصالحها وحدودها وأمنها القومي،، وادى رفض النيتو ومماطلته الاستجابة لذلك الطلب على مدار أعوام لاتفصال القرم ثم انفصال لوغانسك ودونييتسك، وانتهى بغزو أوكرانيا منذ أقل من أسبوع، وسط تخاذل الغرب وتخليه عنها واكتفاءه بفرض عقوبات اقتصادية ووعود بتوفير أسلحة لا تكفي لأكثر من أسبوعين في وجه الآلة العسكرية الروسية الضخمة!

ونأتي هنا للسؤال الأهم ..

ما تأثير ذلك الصراع على روسيا وأوكرانيا  والعالم ومصر تحديداً؟

قناعتي هي أن العقوبات الاقتصادية ليست مجدية‘ فهي قد تؤلم وتمنح الدول والشعوب المتضررة منها أوقاتاً عصيبة، ولكنها لم تنجح تاريخياً في إخضاع الأنظمة أو الشعوب، فهي لم تفلح في الإطاحة بكاسترو في كوبا ولا كيم في كوريا الشمالية، أو صدام في العراق، أو الأسد في سوريا، ولا بوتين نفسه بعد ضمه شبه جزيرة القرم، بل وأصبحت إيران، بالرغم من العقوبات القاسية ضدها طوال عقود، اكثر سيطرة  وتغلغلاً في العراق ولبنان وسوريا واليمن والقرن الإفريقي، بل واكثر قدرة على إنتاج أسلحة نووية !

ما سيثير دهشتك أيضاً عزيزي القارئ، وما لا يمكن إنكاره، هو أن تلك العقوبات ستضر الأوروبيين وواشنطن وأوكرانيا بشكل كبير كما ستضر موسكو، فروسيا توفر ما يزيد على ربع حاجة أوروبا من النفط، وأكثر من نصف حاجتها من الغاز الطبيعي المسال، وتوفر مئات الآلاف من براميل النفط للولايات المتحدة يومياً، ناهيك عن اعتماد صناعة الحديد والصلب الأمريكية على واردات الحديد الروسي الخام، بالإضافة لأكثر من 100 مليار دولار تستثمرها شركات غربية في روسيا، وهو ما أدى لانقسام الحلفاء الغربيين حول فصل روسيا عن نظام سويفت البنكي، فبدونه لن تستطيع أوروبا، وألمانيا تحديداً، تحويل مستحقات شركات الطاقة الروسية، وبالتالي ستتوقف إمدادات الغاز والنفط إليها. أما أوكرانيا فستخسر ثلاثة مليارات دولار تدخل خزينتها سنوياً نتيجة مرور خط أنابيب الغاز الروسي إلى أوروبا عبر أراضيها، وهو رقم كبير بالنسبة لاقتصادها الناشئ.

أما فيما يتعلق بتأثير الصراع على مصر تحديداً، فلا أخفيك سراً أخي القارئ العزيز أن الأمر لن يكون سهلاً على الشعب والقيادة في مصرعلى حد سواء على الصعيدين السياسي والاقتصادي!

فمصر تستورد ٨,٥ مليون طن قمح من روسيا و ٢,٥ مليون طن من أوكرانيا بينما تستورد مليون طن من الاتحاد الاوروبي، وهو ما يعني أن مصادر مصر الرئيسية من القمح ستتأثرىبشكل كبير بسبب تلك الحرب، ناهيك عن انخفاض المعروض في الأسواق العالمية مما سيؤدي إلى ارتفاع السعر بشكل كبير، و دعني أخبرك أن الارتفاع الطفيف في سعر القمح نتيجة جائحة كورونا فقط قد كلف الخزينة المصرية ما يزيد عن مليار دولار إضافية خلال العام الماضي فقط، وبالتالي يمكنك أن تفهم كيف تم إلغاء آخر مناقصة للقمح منذ أقل من أسبوع لعدم تقدم أي شركة عالمية لها ودخول شركة واحدة فقط عرضت 400 دولار للطن بينما كان السعر منذ أسابيع 345 دولار فقط، وهو ما سيتطور للأسوا خلال الأسابيع القادمة !

قد تبدو لك تلك الأرقام مخيفة، ولكنها تصبح هامشية عندما يتعلق الأمر بأسعار النفط، فالموازنة العامة للدولة تم إعدادها بناءً على سعر 62 دولار لبرميل النفط، بينما تجاوزت الأسعار بسبب الأزمة حاجز المائة دولار، و يتوقع الخبراء استمرار الارتفاع بسبب العقوبات على روسيا التي تعد من أكبر المنتجين للنفط في العالم. ولكي تتخيل تأثير فارق الأربعين دولاراً في سعر برميل النفط على مصر، فيمكنني أن أخبرك أن ارتفاعاً بقيمة دولار واحد يكلف الخزينة العامة مليارين ونصف من الجنيهات أي أن "التعويرة" بسبب النفط وحده ستقترب من 100 مليار جنيه، وهو ما سينعكس على تخفيض مستويات دعم المواد البترولية، وبالتالي ارتفاع أسعار الوقود وما سيتبعه من ارتفاع كافة أسعار السلع بسبب ارتفاع تكلفة الانتاج والنقل والتوزيع، وارتفاع نسبة التضخم، وانخفاض القدرة الشرائية للعملة المحلية، وما سيتبع ذلك كله من كساد في الأسواق وضغط على الأسرة المصرية!

على المستوى السياسي، لا أجدني إلا متعاطفاً وبشدة مع القيادة السياسية، فعلاقات مصر مع روسيا الاتحادية متشعبة وأحياناً متضاربة مع مصالح دول كبرى أخرى، ناهيك عن المشاريع والخطط الاستراتيجية الوطنية التي تعد روسيا شريكاً أساسياً فيها.

فعلى المستوى السياسي تعد روسيا لاعباً أساسياً في الأزمة الليبية وهي لن تساهم بالطبع في جهود استقرار الوضع لتنعم أوروبا بالنفط الليبي وتجد فيه بديلاً عن النفط الروسي، وهي لن تساهم بالطبع في استقرار عالم يفرض عليها العقوبات ويحاصرها سياسياً واقتصادياً، بل وحتى رياضياً.

كما أن خطة القيادة المصرية لتطوير القدرات العسكرية المصرية للاستجابة للتحديات المحيطة بنا تقوم في جزء كبير منها على شراء مقاتلات سوخوي 35 المتطورة من روسيا، وهي الصفقة التي عارضتها واشنطن، وأصرت عليها مصر حتى لا نبقى حبيسي السلاح الأمريكي، ولكن الأمر هذه المرة سيصبح مختلفاً، فشراء السلاح من روسيا الآن سيتم تصنيفه على أنه اختراق للعقوبات الدولية وليس ممارسة للسيادة الوطنية، وسيعد تشجيعاً لصناعة السلاح الروسية التي ينظر إليها العالم الآن على أنها أداة بوتين لقتل الأبرياء وغزو الدول المسالمة، وتخلينا عن الصفقة وهي في مراحلها الأخيرة سيربك حسابات القوات الجوية المصرية، ولن يضمن بالتأكيد استرداد مصر للدفعات التي قامت بسدادها للجانب الروسي!

ما هو أهم بالنسبة لنا كذلك هو أن روسيا منحت مصر تسهيلات بقيمة 25 مليار دولار لإنشاء المحطات النووية بالضبعة والتي تعتمد مصر عليها بشكل كبير لتطوير شبكة الطاقة المصرية، ودعم خطة مصر 2030، وهو بالتأكيد ما سيشهد ارتباكاً شديداً، مع احتمال توقفه بالكامل بعد فرض تلك العقوبات الاقتصادية القاسية على موسكو!

ولا أظن الأمر سيختلف عندما نتحدث عن الغاز، فروسيا تعتمد على الضغوط التي ستمارسها على أوروبا حينما تقطع إمدادات الغاز عنها، ودخول مصر على خط توفير البدائل، سيجعلها في نظر موسكو داعمة للجانب الآخر، وهو ما سينعكس على موقف روسيا من كل الأمور العالقة في صفقات السلاح والمحطات النووية والأزمة الليبية، بل وقد يمتد لدعمها للجانب الإثيوبي في أزمة سد النهضة !

لا أظن أن يونس شلبي "عاطف" قد فهم شيئاً من هذه المقالة، ولكنني واثق أنك الآن أكثر إدراكاً لجوانب الصراع في أوكرانيا وتأثيره المباشرعلينا بعيداً عن أوهام البعض بالزواج من إحدى الشقراوات !

حفظ الله مصر.

 

Sunday, May 16, 2021

مصر و فلسطين .. بين إعلامنا وأكاذيب التخوين !


بقلم: إيهاب الشيمي

اقتحام مستوطنين لأحياء عربية في القدس ..

اشتباكات ومقتل جنود إسرائيليين في عمليات طعن متفرقة ..

إسرائيل تغلق الأقصى والبلدة القديمة في وجه المصلين ..

الغضب يجتاح الأراضي المحتلة واستهشاد و جرح العشرات في مواجهات مع قوات الاحتلال ..

حماس تقصف جنوب إسرائيل بالصواريخ ..

إسرائيل تبدأ قصفاً جوياً لغزة مساء اليوم رداً على الهجمات الصاروخية ..

الجيش الإسرائيلي يستعد لشن حملة عسكرية برية في القطاع لتحييد خطر الصواريخ ..

استهداف قياديين لحماس و عائلاتهم في غزة ..

تدمير مئات الأهداف المنازل و عشرات المدارس و المستشفيات و تضرر محطات الكهرباء ..

استشهاد المئات وإصابة الألاف من المدنيين الفلسطينيين إثر القصف الجوي والبحري الإسرائيلي ..

كتائب القسام تتوعد الحكومة الإسرائيلية برد قاس في العمق الإسرائيلي ..

سرايا القدس تهدد الجيش الاسرائيلي بمفاجآت حال قرر قادته دخول قواته براً إلى القطاع ..

البيت الأبيض يعلن دعمه لحق إسرائيل في الدفاع عن النفس ..

اجتماع مجلس الجامعة العربية لوقف العدوان ومناشدة المجتمع الدولي لتحمل مسؤولياته ..

...

عفواً عزيزي القارئ، قد تعتقد أن ما سبق هو استعراض لما يحدث الآن في الأراضي المحتلة، ولكن ما سيفاجئك هو أنه يمكنك ببساطة، وبعشوائية إن شئت، اختيار ما تراه مناسباً كأعوام تؤرخ  للعناوين السابقة، و سيمكنك ببساطة أكثر إيلاماً استدعاء مشاعر الغضب و الحزن و الأسى التي عايشتها خلال كل هذه الأحداث وكل تلك التواريخ التي تداعت إلى ذهنك،  رغم مرور سنوات على حدوثها.

لكنك حتماً ستواجه فشلاً ذريعاً حين يكون مرادك تذكر أسباب التصعيد في كل منها، أو مواقف الأطراف المتصارعة قبله  وبعده، أو الأسباب التي أدت لتوقف التصعيد والصدام بين الأطراف كافة وما استتبع ذلك من حجم المكاسب التي خرج بها كل طرف.

عذراً، لن أتحدث عن الخسائر، فالخاسر الوحيد في نظري دائماً هو كل تلك الامهات الثكالى، والاطفال المشردون، والآباء المكلومون على مواراة أبنائهم وأحفادهم التراب بينما ظنوا دوماً انهم هم من سيوارون أجسادهم الثرى!

ولست أتهمك عزيزي القارئ هنا بضعف الذاكرة، أو سطحية التفكير، أو فقدك للاهتمام بالأحداث، فلو أن هذا ما يميزك لما كنت تقرأ هذه السطور من الاساس، و لكن ما أنا بصدده هنا هو بيان الحقيقة المؤلمة في أن فشلك في تذكر أسباب التصعيد وأطرافه ومكاسبهم ليس إلا نتيجة لفشل الإعلام المصري على كافة الأصعدة في أن يمنحك صورة كاملة عن الحدث، و تحليلاً أعمق لجذوره و تفرعاته، وأن يعطي لك بالتالي كمصري فرصة أفضل لتفهم موقف حكومتك الرسمي، والوعي بالدور المحوري لمصر في دعم حق الشعب الفلسطيني في العيش حراً كريماً في دولة ذات سيادة و حدود معترف بها، والأهم من ذلك كله، وهو تبصيرك بالحجج و البراهين التي تساندك حين يتعلق الأمر بالرد على ادعاءات المغرضين الذين لا هم لهم سوى تقزيم الدور المصري، أو تشويهه، أو تخوينه لخدمة أجندات داخلية و خارجية.

ولا أنكر هنا بأي حال تطور أدوات ذلك الإعلام، بدءاً  بالصحافة المقروءة، ومروراً بالقنوات الفضائية، وانتهاءاً بالمواقع الإليكترونية، و لكن ذلك التطور في الأدوات لم يواكبه أي تطور يذكر في أسلوب التناول والعرض والتحليل السياسي والاستراتيجي القائم على أسس مهنية وعلمية، فلم يجد المتابع نفسه إلا فريسة سهلة لمن يتقنون فعل ذلك لتحقيق أغراضهم، لنجد أنفسنا في النهاية و قد تعادلت كفة عشرات الآلاف ممن يشغلون طوابق ماسبيرو ووكالة أنباء الشرق الأوسط والصحف القومية والفضائيات، مع قلم رجل واحد مثل عبد الباري عطوان في صحيفة القدس العربي التي تصدر في لندن، أو بضع شعارات جوفاء على حساب اللاعب محمد أبو تريكة الذي يغرد من الدوحة ويتابعه الملايين من الشباب المصري والعربي، والعديد من أقرانه ممن نجحت جهود استغلال إنجازاتهم الرياضية والفنية بالتنسيق مع قنوات الجزيرة ومواقع الإخوان المسلمين الظاهرة والخفية، المدعومة والممولة من طهران وأنقرة في لي الحقائق و إظهار تركيا وقطر في صورة المساندين للحق الفلسطيني، و حصر المقاومة الوطنية في حماس، وحصر فلسطين في غزة، بينما رسموا صورة مشوهة لمصر تتحالف فيها مع الكيان الصهيوني تصفيةً لحسابات تتعلق بالأمن القومي.

إذا كنت تعتقد اني من المتحاملين على الإعلام المصري، فكيف لك أن تفسر عدم استطاعة وسائل الإعلام المصرية الكشف عن حجم العلاقات الوثيقة بين أنقرة والدوحة وتل أبيب على جميع الأصعدة خلال العقدين الماضيين للملايين من الشباب غير المسيس؟!

و كيف لك أن تفسر لماذا لم يتطرق بشكل موضوعي ومؤثر إلى حجم التعاون الاقتصادي والسياسي والعسكري بينهم والذي لم يتوقف حتى بعد عمليات الرصاص المصبوب ضد غزة في 2008 أو الجرف الصامد في 2014؟! بل وكيف زاد حجم التبادل التجاري بين أنقرة وتل أبيب في العام الماضي رغم أزمة كورونا ورغم تهديدات أردوغان بالانتقام رداً على إعلان ضم القدس وأجزاء من الضفة؟!

 و السؤال الأهم هنا، هو كيف لم يتطرق أحد من هذه الوسائل لتفسير اشتراط  حماس لفتح معبر واحد مثل "رفح" و هو الأقل منفعة للفلسطينيين في غزة للقبول بوقف إطلاق النار في 2012 و 2014، بينما تجاهلت ستة معابر أخرى مع إسرائيل يتحرك من خلالها معظم سكان غزة للعمل و الدراسة و التجارة داخل إسرائيل، حتى يظهر للعالم أن مصر هي من تحاصر القطاع و ليس إسرائيل!

كيف لم يتحدث أحد ممن يملأون الشاشات ليلاً و نهاراً عن أن المبادرة المصرية أثناء اجتياح غزة في 2014 كانت تتضمن فتح المعابر الإسرائيلية مع القطاع وإنهاء الحصار الإسرائيلي المفروض عليه منذ انقلاب حماس على السلطة الفلسطينينة في 2007، و أن الجهود الاستخباراتية و الدبلوماسية المصرية نجحت في إقناع إسرائيل بإعلان قبول ذلك ووقف إطلاق النار، وكيف أن الجهود الاستخباراتية المصرية هي ما منعت اجتياح الجيش الإسرائيلي لقطاع غزة خلال الأسبوع الماضي في عملية كان سيسقط فيها الآلاف من الضحايا الأبرياء من الشعب الفلسطيني الأسير في غزة الذي تسيطر عليه وترهبه ميليشيات حماس الإرهابية منذ 14 عاماً ؟!

كيف لم ينجح أي من هؤلاء الإعلاميين في بيان كيفية متاجرة قادة حماس بدماء وأرواح ومستقبل الفلسطينيين برفضهم، خلال الأيام الماضية، لمباردرات وقف إطلاق النار وادعاء وقوفهم في وجه العدوان واستعدادهم للتضحية بكل غالٍ ورخيص من أجل الأقصى، بينما هم غير متواجدين من الأساس في غزة مع من يواجهون الموت كل ليلة، بل هناك برفقة إسماعيل هنية في زيارة إلى الدوحة تلقى خلالها دعماً من امير قطر بقيمة 300 مليون دولار بحضور ممثلين من إيران و تركيا ؟!

كيف لم يطرح ذلك الإعلام سؤالاً بسيطاً، وهو إذا كان كل ذلك الغضب من أجل الأقصى، كما تدعي قيادات حماس، فلماذا لم تنطلق كل تلك الصواريخ حينما أعلن ترامب ونتنياهو ضم أجزاء من الضفة الغربية وإعلان القدس عاصمة لإسرائيل العام الماضي ؟! و كيف لم يكشفوا أن أن الأمر كله مرتبط بتعزيز صورة حماس ضد فتح قبيل الانتخابات المزمعة رغم تأجيلها، و كيف أن هذا التوقيت بالذات مرتبط باجتماعات الاتفاق النووي الإيراني و إيصال رسالة من طهران، عبر حماس، إلى تل أبيب أن الحرس الثوري يمكنه إيذاء العمق الإسرائيلي عبر وكلائه إذا أصرت إسرائيل على موقفها من رفض الاتفاق وتخريب البرنامج النووي الإيراني ؟!

كيف لم يخرج أحد في هذا الإعلام ليشرح للجميع كيف أنقذت حماس وقيادتها المجتمع الإسرائيلي من الانقسام كلما زادت حدته لتوحد ذلك المجتمع ضد عدو واحد ولتنقذ نتنياهو وتمنحه رئاسة الوزراء على طبق من ذهب وهو ما حدث في 2008 و في 2014 و يحدث الآن في 2021، وكيف حولت الانتباه عمداً عما هو أهم في العراق لصاح الولايات المتحدة وإيران، لتلعب حماس دور حصان طروادة الذي نجح أعداء الأمة في إدخاله عبر أسوار المقاومة العربية ليهدمها من الداخل تحت عباءة الدين وعمامة التقوى؟!

يمكنك متابعة المزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع في مقالي هنا:

فلسطين و العراق .. المؤامرة و إشارات التاريخ !

http://ehabelsheemy.blogspot.com/2014/11/blog-post_7.html

عذراً أيها القارئ، فلقد فشل الإعلام المصري، كعادته، في بيان أسباب التصعيد، و حجم المصالح المتعلقة به لدى كل طرف، والمواقف الحقيقية للدول المعنية سواء على الارض بكل ما تحمله من دماء و آلام و دمار، أو في ردهات الدبلوماسية الاقليمية و العالمية الأنيقة بكل ما تحويه من اتفاقات سرية و حسابات استراتيجية، أو في أسواق السلاح و النفط الدولية التي لا يعنيها من كمية الدماء المسالة إلا قدر ما ستؤمنه من صفقات جديدة لترويج منتجاتها بسعر أفضل في ظل طلب أكثر إلحاحاً من الجميع.

بقي لي فقط في النهاية أن أطلب منكم أن تلعبوا أنتم دور الإعلام الغائب مع أبنائكم كي لا يفقدوا الهوية وكي يتحسسوا طريقهم لإدراك حقيقة ما يحدث حتى وإن حاول الآخرون تغيير اتجاه بوصلة الحقيقة !

علموا أولادكم أن الأقصى أسير ..

وأن فلسطين عربية من النهر إلى البحر ..

وأن إسرائيل عدو ..

وأن حماس ليست الشعب الفلسطيني!

وأن المقاومة شرف لا يمكن اختزاله في شعارات جوفاء أو راية يتوشحون بها في ملعب لكرة القدم!

وأن أمن مصر القومي لا يقف عند حدودها، بل يمتد إلى ضفاف الخليج العربي شرقاً، وباب المندب ومنابع النيل جنوباً، وسواحل الأطلسي غرباُ، وتخوم الأاناضول شمالاً !

و أن مصر بدماء ابنائها  وجهود استخباراتها و دبلوماسييها وقوة جيشها، كانت وستظل دوماً هي حجر العثرة أمام طموحات إسرائيل التوسعية وهي النصير القوي و الأمين لحق الشعب الفلسطيني في استعادة أرضه و أمنه و حقه في عيش كريم على تراب مستقل

حفظ الله مصر.


Saturday, March 20, 2021

شريحة اللحم المشوي .. وأشياء أخرى !!

إيهاب الشيمي

منذ كنت طفلاً صغيراً، دائماً ما راودتني تلك الأفكار الغريبة عن حقيقة الأشياء، عن الكون، عن الخالق، عن وجودي ذاته من عدمه .. !

و دائماً ما سألت أصدقائي ..
كيف لك أن تعرف أن عالمي هو عالمك ؟
كيف لك أن تثبت أن ما يحدث لك، يحدث بالفعل ؟
كيف تستطيع أن تثبت أنني موجود بالأساس و أنني أسألك هذا السؤال بالفعل ؟
وحتى ظهور فيلم "المصفوفة" أو "The Matrix" بعد تخرجنا بخمس سنوات كاملة، كان الجواب دائماً، هو: هل أنت مجنون ؟

و كان ردي دائماً، على تساؤلهم حول جنوني من عدمه، هو سؤال آخر..
ما هو اللون الذي تراه هنا ؟
بالطبع سيكون جوابك هو "الأحمر"
و هنا سأصحح لك جوابك
الأحمر هو الاسم الذي تعرف به هذا اللون
و هو الاسم الذي تعرف به هذا اللون منذ أن قالت لك أمك أنه "احمر"
و لكن .. ما الذي يثبت أنني كذلك أراه أحمرا ؟
مجرد تعريفي له أنه "أحمر" لا يعني أنني أراه "الأحمر" الذي تراه أنت.
نعم .. نحن متفقان أن إسم هذا اللون هو "الأحمر" و لكن أليس من المحتمل أنني أراه ما تراه أنت "أزرق" و لكني منذ ولادتي علمني الجميع أن ما أراه "أزرقاً" إسمه "أحمر" ؟

بالطبع .. لن يمكنك أن تنفي أو تثبت ذلك، فعيناي ستظلان عيناي وحدي، و الإشارات العصبية التي تنقل ما تراه عيناي ستظل مشفرة بحيث لا يستطيع فك شفرتها غير مخي أنا فقط، و الكود الذي يحل الشفرة ليجعلني أرى هذا اللون ما تسميه أنت أحمر، و ما أراه أنا أزرقاً، سيظل شيئا لا يمكن الكشف عنه.. !

الشيئ الوحيد الذي نتفق عليه هو تعريفنا لإسم هذا اللون، و ليس كيف يراه كل منا!
إذا اقتنعت بما أقول، فعليك أن تعيد النظر في كل التعريفات ..
فكلها مجرد أسماء لما يصل مخك من نبضات كهربية يحل شفرتها ذلك الكود الخاص بك فقط!

و يبقى السؤال .. هل أنت حقاً تقرأ هذه السطور؟ أم أن أحدهم يضخ بعض النبضات الكهربية داخل دماغك ليوهم عقلك أن هذا البوست موجود بالفعل، بينما ليس هناك ما تظن أنت أن اسمه "مدونة" من الأساس ؟

و السؤال الأهم .. ماذا عن مذاق شريحة اللحم المشوي؟