بقلم : إيهاب الشيمي
ترددت كثيراً قبل أن أقرر إعادة الكتابة
حول مسألة " تجديد الخطاب الديني" التي شغلت مساحة كبيرة من صفحات
الجرائد و البرامج الحوارية بعد الإعلان عن تأسيس وإطلاق مؤسسة تكون الفكر العربي، ناهيك عن شبكات التواصل الاجتماعي التي ملأها الجميع
صراخاً وعويلاً كثيرة دفاعاً عن مواقفه وشحذاً لهمم مؤيديه، أو وسباباً و هجوماً في
أحيان كثيرة على من يعارضونه، للحد الذي وصل لإثارة الأمر في ساحات القضاء واجتماعات مجلس النواب بل ودعوة البعض لتكفير من لا يوافقونهم الرأي والمطالبة بقتلهم !
ولن أكون هنا طرفاً في الأمر الذي تحول
في رأيي لصراع، ولن أكون منتمياً لأحد الجانبين، ولن أخوض بالتاكيد في أمور فقهية
ودعوية، فقدري أدنى من أن أخوض فيما وهب له علماء حياتهم بأكملها، ولكني أريد فقط
أن أوضح بعض النقاط التي أظن أنها قد غابت عمن خاضوا هذا النقاش و فقدوا بسبب ذلك
الموضوعية المطلوبة في مثل هذه الأمور ..
أول هذه النقاط هو أنه وبالرغم من وجود جامعة الأزهر ومؤسسة "تكوين" في القاهرة، وعلى الرغم من أن الدعوة لتجديد الخطاب الديني جاءت من جانب الرئيس السيسي
خلال مؤتمر الشباب في عام 2018، وهو من أكد مجدداً على موقفه في سبتمبر 2021 حين
أعلن احترامه للجميع، من يعتقد بأية ديانة بل ومن لا يعتقد على الإطلاق، إلا أن
ذلك لا يعني أن الإسلام يحمل الجنسية المصرية فقط، أو أن تلك المهمة مقصورة على علماء
الفقه والشريعة والحديث ورجال الدعوة المصريين دون غيرهم، فحين يتجاوز تعداد المسلمين
المليار و نصف المليار في أكثر من ثمانين دولة فلا يمكننا حصر تنقيح النصوص في
الأزهر، أو أن ننصب يوسف زيدان وإبراهيم عيسى وإسلام بحيري ورفقائهم في مؤسسة "تكوين" رموزاً وزعماء لتيار التنوير والتجديد وتعزيز قيم الحوار وإعلاء مبادئ التسامح في العالم الإسلامي
بأسره، متجاهلين بذلك المئات من المجددين ممن سبقوهم على مر التاريخ الإسلامي،
والملايين ممن ينتشرون حالياً في العالم بأسره خارج مصر.
الأمر الثاني، هو قناعتي أن صحيح الدين
الذي أنزله الله سبحانه وتعالى ليصلح لكل الشعوب وكل الأزمان، وليواكب كل
التطورات، ليس هو ما يصر معظم رجال الدعوة وعلماء الأزهرعلى حصره في كتب التفسير
والسنة والحديث المتوارثة منذ مئات السنين، والتي تم جمعها وصياغتها وكتابتها
بناءً على فهم من صاغوها في أزمانهم، وفي إطار معطيات اجتماعية وثقافية وعلمية
محدودة مقارنةً بما هو متاح حالياً وبما تم اكتشافه من أسرار وحقائق علمية خلال
العصر الحديث!
فقناعتي أن صحيح الدين، هو ما أوحى الله
به إلى عبده و رسوله محمد ﷺ ليوافق الفطرة السليمة التي فطر
الله الانسان عليها والتي لا تختلف أسسها ومعاييرها مهما اختلف الزمان أو المكان
أو اللسان أو الثقافة، وتعاليمه هي التي تؤكد قيم الحرية و المساواة والعدل والتكافل، التي تشترك في احترامها كل الأنظمة السياسية والاجتماعية، بل وكل
العقائد حتى غير السماوية منها، بما لا يتعارض مع المنطق الصحيح والعلم الثابت
بالأدلة القطعية، مع يقيني بوجود المعجزات التي أجراها الله على يد رسله وأنبياءه
لهدف معين، وفي وقت محدد أراد به تثبيت أسس الإيمان في قلوب من آمنوا، ودغدغة عقول
من لم يؤمنوا ليعيدوا حساباتهم، أو يستمروا في الإيمان بكل ما هو مادي فقط !
الأمر الثالث، و هو أن الدين ليس مجرد
تعاليم و نصوص تخضع لإعمال كل شخص لعقله على حدة دون أن يكون لديه الخلفية المرجعية
اللازمة لقراءة النصوص، وفهم المحتوى الذي نزلت في إطاره، وكذلك استيعابه للصورة
الأشمل التي تتيح له فهم مدى ارتباطها ببعضها البعض، بل ونسخ بعضها للآخر في بعض الأحيان. و لو أن
الأمر خاضع لتفسير كل منا للنص دون الحاجة لعلوم الحديث والفقه والشريعة والقياس
والاجتهاد، بحجة أن الدين علاقة خاصة بين العبد وربه، فلا يمكننا حينها أن ننتقد
ما ذهب إليه الملايين من المتطرفين عبر التاريخ الإسلامي ممن أعملوا عقولهم وفسروا
النصوص تبعاً لمنطقهم الخاص ليخرج علينا في النهاية جماعات مثل الحشاشين والإخوان
المسلمين والقاعدة وداعش وأنصار بيت المقدس، بل ومن لا يقلون خطراً عنهم، وان اعتقد
البعض غير ذلك، ممن كانوا يخرجون أسبوعياً في مسيرات كرداسة وعين شمس و المطرية
وحلوان في أعقاب الإطاحة بنظام الإخوان المسليمن في 2013!
الأمر الأخير، و هو أن أعداء الأمة، الذين أصر دوماً على وجودهم وعلى استمرارهم في حياكة المؤامرات ضدها رغم إنكار العديدين لذلك، يجيدون وبدقة فائقة ودهاء شديد تحديد ما يقوض وحدتنا ويدمر هويتنا بداية من تأجيج الصراع الطبقي، ومروراً بمحاولة الفصل بين الجيش والشعب، مروراً بزرع الفتنة بين طوائف الشعب مسلمين ومسيحيين، ونهاية بما يحدث الآن من محاولة استغلال النقاش حول حرية العقيدة وضرورة تنقيح المراجع ومراجعة النصوص الدينية، للتشكيك في أهلية المؤسسات الدينية، و المرور من خلال ذلك إلى التشكيك في الفروع ، وصولاً إلى التشكيك في الأصول و تدمير أي مرجعية يمكن من خلالها مواجهة محاولاتهم لتقسيم الأمة و زرع الفرقة.
إن التنقيح والمراجعة وتجديد تفسير
النصوص بما يوافق التطور العلمي و اختلاف منطق الأشياء و تغير طبيعة التحديات هو
شئ حتمي لا مناص من حدوثه مهما رفض صقور الأزهر ذلك ومهما أصر البعض على عصمة نصوص
كتب الحديث والسيرة النبوية، فبالرغم من إيماني الراسخ أن الله أنزل دينه وبعث
رسوله بما يصلح لكل زمان ومكان حتى قيام الساعة، إلا أن إيماني أيضاً هو أن تفسير تلك النصوص يخضع لمنطق من قام بالتفسير لحظة قيامه بذلك، وهو ما يتغير بتقدم الزمن وتطور العلوم، فما كان مستحيلاً منطقياً منذ اربعة عشر قرناً، أصبح شديد المنطقية
الآن مثل إمكانية الانتقال من طرف العالم إلى طرفه الآخر بين ليلة وضحاها، أو
إمكانية التواصل صوتاً وصورة مع شخص يبعد عنك آلاف الأميال، أو حقيقة اكتشاف أن
الأرض كروية تحول قوى الجاذبية دون أن نسقط من على سطحها إلى الفضاء الواسع، أو أن
يصيبنا الدوار نتيجة دورانها حول نفسها !
و لكن ما علينا أن ندركه ونعيه هو أن ذلك التنقيح
وذلك الحوار حول منطقية تفسير النصوص وملائمتها للمنطق ومواكبتها للتطور يجب أن
يتم من خلال القنوات الصحيحة ومن خلال من نثق في علمهم ونتأكد من إخلاصهم لدينهم
وأوطانهم وليس لسلطة حاكمة، أو أيديولولجية فانية، أو جماعة ومؤسسة بعينها، أو
لقوى خارجية تريد استغلال ما يفرقنا، أو حتى لنرجسية حمقاء يفترض معها من يريد
التغيير صحة منطقه هو فقط دون غيره!
إن التجديد في الخطاب الديني، و مراجعة
النصوص و تنقيحها ليس معياره الوحيد هو الرغبة في التغيير ومواكبة التطور، أو
الإعجاب بمنطق من يدعو إليه دون معرفة دوافعه الحقيقية، بل هناك من المعايير ما
يجب أن نضعه كذلك في الحسبان، حتى لا يحدث في النهاية ما حدث في دولنا خلال
السنوات الأخيرة من جديد، حين كانت الرغبة في التغيير السياسي حتمية، فاندفع
الكثيرون وراء من انقضوا على مسيرة التغيير دون معرفة دوافعهم و ولاءاتهم، فكانت
النتيجة أن استبدلنا فساد الطغم الحاكمة بفاشية الجماعات الدينية، و قمع و دكتاتورية الحكام بفوضى
اللادولة !
حفظ الله مصر و شعبها و جنبها شر الفتن.