Saturday, February 18, 2017

الاقتصاد .. بين فوضى الإشاعات و حقائق المؤشرات !







إيهاب الشيمي 


بينما تمارس طقوس حياتك اليومية و تحاول جاهداً السيطرة على وحش الأسعار الذي يبدو أنه يمتلك دائماً من الأذرع عدداً يفوق ذلك الذي استطعت بكل ما أوتيت من قوة السيطرة عليه، تصطدم بأذنيك من آن لآخر بعض العبارات التي يطلقها فيما يبدو الكثير من الأشخاص الذين فرقتهم الطبقات الإجتماعية و نمط الحياة اليومية و القدر الذي تلقوه من التعليم، و جمعهم فقط التذمر من الارتفاع الرهيب في أسعار كل شئ تقريباً، إذا استثنينا الهواء الذي يتنفسونه بالطبع !

و يمكنني بالطبع هنا عزيز القارئ أن أذكرك ببعض تلك العبارات ..

فها هو احدهم يقول: " الله يرحم أيامك يا مبارك .. كانت الحاجة رخيصة و الدولار بأربعة جنيه و لتر البنزين بتسعين قرش " .. !

و ها هو آخر يندب حظ جماعته ليقول : " ما كانش عاجبكم الإخوان .. أهو الدولار كان بستة جنيه أيامهم و انتم دلوقتي فرحانين عشان نزل و بقى ب 16 جنيه .. منه لله اللي كان السبب " .. !

و دعوني ألفت انتباهكم هنا أنني استخدمت وصف " الارتفاع الرهيب" و ليس " الارتفاع اللامسبوق" لأن نسبة التضخم السنوي الآن، و بالرغم من كونها قد تعدت 29% ، إلا أنها مازالت أقل من أعلى معدل للتضخم السنوي تم تسجيله في مصر .

و دعوني أيضاً أذكر من يترحمون على أيام مبارك أن أعلى معدلات التضخم بلغ 30% و تم تسجيله في عام 1986 أثناء حكم مبارك و في ظل حكومة الدكتور عاطف صدقي التي استمرت بعدها في الحكم لمدة 10 سنوات ضمن نظام استمر حكمه لفترة تزيد على الثلاثة عقود !
ذلك النظام الذي خدع الجميع ببقاء الأسعار عند مستويات ثابتة تقريباً، أو دعني أكون أكثر تحديداً بقولي أنه أبقاها عند مستويات تمكنه من تجنب الغضب الشعبي لأكبر فترة ممكنة عن طريق توجيه معظم بنود النفقات في الموازنة العامة نحو تخدير الشعب و ضمان تجنب سخطه بالعمل على الزيادة الدورية للأجور، و خلق فرص عمل وهمية لا تساهم بأي شكل في زيادة الانتاجية، و العمل كذلك على زيادة دعم السلع التموينية و الوقود .. ذلك الدعم الذي كان يلتهمه في النهاية رجاله المقربون أو من يشبهونهم من "حيتان السوق" كما يحب البعض أن يطلق عليهم !

و يمكنك عزيزي القارئ أن تكتشف كيف أن عشرات المليارات من تلك التي تم إهدارها لتبقى راضياً عن حكومات ما قبل يناير و تظل غارقاً في حلم الحياة الرغدة السعيدة بينما تنهار الدولة من حولك، كان يمكنها أن تنشئ بنية تحتية ضخمة تشمل محطات لتوليد الكهرباء، و شبكات طرق، و موانئ ضخمة، تسهم في فتح آفاق جديدة للاستثمار في مصر، و تعمل على خلق وظائف و فرص عمل حقيقية للجميع تضاعف من الناتج القومي، و تجذب المزيد من المستثمرين الرئيسيين من أطراف العالم، و تزيد من موارد العملة الصعبة، و ترفع بالتالي من قيمة احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي .. و لكنه للأسف ما لم يحدث على الإطلاق، و هو ما نحاول الآن أن نتداركه لإنقاذ ما يمكن إنقاذه !

و دعني أبتعد بك و من يقرأون مقالي هذا معك عن منطقة المقارنات و الشد و الجذب بين أنصار السيسي و فلول المخلوع و أتباع المعزول، فالحكم على أداء الاقتصاد المصري في النهاية ليس خاضعاً لما تقرأه من خرافات على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي أو ما تسمعه من عبارات مثل تلك التي سقت لك بعضها هنا، و لا لتوجهاتك الشخصية و قناعاتك المشوهة و التأثيرات قصيرة المدى على الجميع و إن كانت قاسية و مؤلمة في بعض الأحيان، بل و لا يخضع كذلك لما يصدر من تصريحات رنانة من بعض المحسوبين على من يديرون شؤؤن البلاد، أو لبيانات الحكومة التي يمكن وصفها بالمتحيزة في كثير من الأحيان .. !

فمؤشرات أداء الاقتصاد مرهونة فقط  بتقييم المؤسسات الدولية و نسبة الإقبال على شراء "سندات الخزانة الدولية" و حجم " الاستثمار الأجنبي المباشر"، و بمدى ارتفاع "التصنيف الائتماني" للدولة، و هي مصطلحات و حقائق يعلم عنها من يدلون بدلوهم في الاقتصاد بنفس قدر ما يعلمونه عن قوانين "الفيزياء الكمية" و ماهية "المادة المضادة" و " من الذي قتل كينيدي" !!

و طالما قررت أن تكمل قراءة السطور التالية، فدعني أخبرك بما يمنحك الكثير من الثقة في تحسن هذه المؤشرات منذ القرارات الاقتصادية الأخيرة ..

فلقد استطاع الجنيه المصري خلال الشهر الحالي استعادة ما يقرب من 16% من قوته في مواجهة الدولار الأمريكي ليكسر حاجز الستة سنتات صعوداً بعدما ظل يتهاوى بشدة في اتجاه الخمسة سنتات فقط لمدة شهرين متتالين، و هو الصعود الذي أرى انه سيستمر حتى الوصول لحاجز الثمانية سنتات أو ما يعادل 12,5 جنيها للدولار كسعر حقيقي و عادل يضمن بقاء سعر تنافسي للسلع المصرية و المنتج السياحي المصري في الأسواق العالمية، و يحقق كذلك التوازن بين سعر النتجات المحلية و مثيلتها المستوردة لضمان استمرار قدرة المستثمرين و المنتجين المحليين على المنافسة  ..

كما استطاعت الحكومة المصرية بيع ما تزيد قيمته على مليار دولار من سندات الخزانة خلال الشهر الحالي فقط ..

و تم كذلك تلقي طلبات شراء بثلاثة أضعاف ما تم طرحه فعلياً من سندات اليوروبوند بقيمة أربعة مليارات دولار خلال شهر يناير الماضي ..

كما تم رفع التصنيف الائتماني لمصر من قبل مؤسسة ستاندرد أند بورز من سلبي إلى مستقر في شهر نوفمبر 2016 ..

و تم الإعلان كذلك عن زيادة تحويلات المصريين بالخارج إلى البنوك المصرية لتتجاوز 11% مقارنة بنفس الفترة من العام السابق لتبلغ القمية الإجمالية لها خلال الربع الأخير من عام 2016 فقط إلى 4,5 مليار دولار، و هو ما يعكس ثقة أبناء الوطن المغتربين أنفسهم في قدرة اقتصاد بلادهم على التعافي و قدرة القطاع المصرفي على توفير ما يريدونه من حساباتهم الدولارية حين يتطلب الأمر ذلك ..

و دعني عزيزي القارئ أخبرك بما يمنحك المزيد من الثقة في قدرة الاقتصاد على التعافي، و هو ما أكدته تقارير المؤسسات المصرفية و المالية الدولية مثل ميريل لينش و فايننشال تايمز و بلومبيرج حول استطاعة القطاع المصرفي في مصر خلال الشهر الماضي الاستجابة للكثير من الطلبات المتأخرة للمستثمرين الأجانب و المصريين على السواء أو ما يعرف باسم " الباك لوج" و تمكن هؤلاء الآن من الحصول على قدر كبير من متطلباتهم الدولارية و كذلك تحويل نسبة كبيرة من أرباحهم للشركات الأم بالخارج و هو ما كان متعذراً منذ ما يزيد على عام و نصف، و هو ما سيزيد بالتأكيد من فرص بقاء هؤلاء المستثمرين في مصر، بل و سيعمل على تشجيع الكثيرين ممن لم يقوموا بالاستثمار في مصر حتى الأن على التوجه إليها بعد التخلص من تلك القيود و التغلب على ذلك العجز.

و يمكنك بالطبع هنا إضافة الكثير من الأمور التي ستسهم بشكل كبير في دعم الاقتصاد و تحويل ما تم تحقيقه على المدى القصير إلى محركات دفع تسهم في استمار الصعود على المدى المتوسط و الطويل، مثل بدء الانتاج من حقول الغاز الطبيعي في المتوسط و التي ستحول مصر من مستورد للغاز إلى واحدة من أكبر المنتجين له في العالم، و كذلك بدء عمل محطات الكهرباء الجديدة في القاهرة و بني سويف و التي ستعمل كذلك على توفير فائض من الطاقة الكهربية يمكن بيعه للدول المجاورة، و يسهم بشكل كبير في دعم المشروعات الجديدة بمحور القناة .. و لن أنسى بالطبع رفع الكثير من الدول الأوروبية لحظر السفر و السياحة إلى مصر و هو ما بدأته أربعة دول اسكندنافية هذا الشهر و سيتبعها بالتأكيد في ذلك الكثير من الدول.

و بالرغم من كل تلك المؤشرات الجيدة، إلا أن النجاح الكامل و التعافي المطلوب للاقتصاد المصري يتطلب التزام الحكومة بالاستمرار في جهودها نحو مكافحة الفساد و إعادة هيكلة الدعم و لكن مع زيادة الضوابط الرقابية على الأسواق لتجنب الإضرار بالشرائح الأقل دخلاً، و الأكثر اهمية من ذلك هو إصدار تشريعات تضمن الشفافية الكاملة في كل ما يتعلق بمنح الامتيازات و الحوافز و الإعفاءات للمستثمرين المحليين و الأجانب، و تحويل التصريحات الرنانة حول تبسيط إجراءات الاستثمار إلى واقع ملموس بدلاً من كونها مجرد حبر على أوراق الصحف اليومية !

كما أن ذلك يتطلب منك أنت أن تدعم المنتجات المحلية و تكبح جماح شهوتك لشراء كل ما هو مستورد و كل ما هو غير أساسي و كل ما هو غير لازم، و هو ما بدأت بوادره تلوح في الأفق حيث انخفضت قيمة الواردات خلال الشهور الأولى من العام الحالي بنسبة تجاوزت 15% عن مثيلتها العام الماضي، و هو ما يستلزم في المقابل تطوير المنتجين المحليين لجودة ما يطرحونه في الأسواق. فدعمك للمنتج المحلي و إقبال الجميع عليه سيزيد من قدرة المستثمرين و المنتجين على زيادة الإنتاج ، و بالتالي تقليل سعر المنتج من خلال توزيع التكلفة على عدد أكبر من المنتجات، و هو ما سيزيد بالتأكيد من التنافسية مع المنتجات الأجنبية، بل و سيعمل على زيادة فرص التصدير كذلك.

و هكذا عزيزي القارئ يمكنك الآن الاختيار بين الاستمرار في التذمر و الاستمتاع باقاويل و عبارات من يشاركونك التذمر، أو أن تكون على مستوى المسؤولية الوطنية لتتحمل الآثار قصيرة المدى لعملية الإصلاح، و تثق في قدرة وطنك على التعافي و النهوض كقوة اقتصادية فاعلة و ضخمة في المنطقة بدلاً من البحث عن وطن بديل لأبنائك في أوروبا أو أمريكا أو حتى على ضفاف الخليج بينما يمكنهم المشاركة في صنع مستقبل مشرق لهم و لأحفادك على أرض هذا الوطن العظيم !

حفظ الله مصر.

No comments:

Post a Comment