Monday, January 11, 2021

السطور الخفية .. في رواية الديمقراطية !




إيهاب الشيمي

منذ بداية الانتخابات الأمريكية الحالية كثر الحديث عن دوائر النفوذ التي تتحكم في المشهد من خلف الكوليس داخل أروقة السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية، ومدى تأثيرها على سير الانتخابات..
 وانخرط الكثيرون في محاولات استقراء تأثير سيطرة الحزبين الجمهوري والديمقراطي على جناحي الكونجرس الأمريكي و مناقشة تأثير ولاءات المسؤولين الأيديولوجية والحزبية على صناعة القرار أو أسلوب تنفيذ القرارات الصادرة من البيت الأبيض بما يخدم هذه الولاءات في المعترك الانتخابي، وبما يمنح المنصات الإعلامية التابعة لكل طرف ما يمكنها أن تستخدمه للعبث بعقل وإدراك المواطن العادي لصالح مموليهم !

ولكن مع ازدياد حرارة المعركة، ومع خروج الرئيس ترامب عن سياق هذا المشهد بظهوره في صورة المتمرد الثائر على آليات عمل الدولة العميقة، بدأت خيوط اللعبة تتضح أكثر فأكثر، وبدأ الهجوم من الجميع، جمهوريين وديمقراطيين، ومن الشركات لمالكة لمنصات التواصل الاجتماعي والشبكات الإخبارية على شخص الرئيس، بل وتقييد حريته التي منحها له الدستور في مخاطبة شعبه ومؤيديه الذي يتجاوز عددهم 70 مليون أمريكي، في أول سابقة من نوعها في تاريخ الولايات المتحدة، في ظل دعم لم يقتصر على أعضاء الحزب الديمقراطي فقط، بل وامتد ليشمل نواباً من الحزب الجمهوري، وحكاماً للولايات، وقضاةً في المحكمة العليا، وكذلك أعضاءً بارزين في إدارته نفسها وعلى رأسهم نائبه مايك بنس!

إن ما حدث خلال الأسابيع الماضية، أكد للجميع أن هناك الكثير من السطور الخفية في رواية الديمقراطية الأمريكية، وأن هؤلاء ليسوا سوى واجهة لمن يسيطر بالفعل على المشهد السياسي والاقتصادي، بل والعسكري في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن يدير الأمور لصالحه فقط منذ إعلان الاستقلال في الرابع من يوليو عام 1776 ولكن تحت عباءة الديمقراطية والحقوق الدستورية ودعم الحريات، ليس في الولايات المتحدة فقط، ولكن في العالم أجمع!

ودعني عزيزي القارئ أحاول فك بعض تعقيدات المشهد لنرى معاً ما هو خلف الكواليس ..

لا أعتقد أنك تختلف معي أنه منذ فجر الحضارة فإن "المال" و "الثروة" كانا دائماً هما المحركان الأساسيان لكل الأنشطة الإنسانية، وأن من يمتلك المزيد منهما يمتلك في واقع الأمر القوة والنفوذ وليس رفاهية العيش فقط، وهذا تماماً ما أدركه من يحركون الخيوط هناك في الولايات المتحدة، وما ينفذونه بدقة بالغة واستمرارية حثيثة تثير الدهشة والإعجاب في ذات الوقت.

فعلى مدار القرون الماضية في الولايات المتحدة، نشأت وتطورت واندمجت وتعملقت شركات تمتلك أصول مالية و عينية توازي ما لدى دول بأكملها، و تخصصت كل منها، في اتفاق ضمني غير معلن لتقسيم الكعكة، في مجالات مختلفة شملت صناعة الأسلحة والنفط، والإعلام، والمؤسسات المالية، والتكنولوجية.
وبطبيعة الحال، وبما أن بصمات مؤسسي هذه الكيانات الضخمة كانت واضحة في إنشاء وتطور وتعديل نظام الحكم وكتابة نصوص الدستور ووضع نظام الانتخابات الفريد من نوعه والقائم بالأساس على منح العدد الأكبر من الأصوات للولايات ذات الثروة والقوة الاقتصادية فقط،استطاع هؤلاء تكوين لوبيات تعمل لضمان مصالحهم من خلال السياسيين الذين يتصدرون المشهد بالنيابة عنهم.

فبغض النظر عن كتلة الأصوات والقاعدة الشعبية التي قد تأتي بأحد السياسيين إلى داخل أحد الحزبين المسيطرين على المشهد، أو إلى فوزه بأحد مقاعد مجلسي النواب و الشيوخ أو حتى إلى وصوله إلى المكتب البيضاوي في البيت الأبيض، فإن نجاحه في إدارة حملته الانتخابية يحتاج إلى دعم مالي وإعلامي ضخم يفوق بأشواط قدرته المادية، وهو بالطبع ما يمنحه إياه من يقفون خلف الكوليس من خلال العديد من المانحين والمتبرعين والمجموعات التي يصعب ربطها بهم، بينما يقوم  ذلك السياسي في المقابل بضمان مصالحهم عبر دعم وتمرير القرارات السياسية والاقتصادية والعسكرية اللازمة لازدهار أعمالهم.

وهكذا يمكنك عزيز القارئ أن تدرك أن الساسة والسلطة التشريعية والتنفيذية والنظام القضائي برمته هناك مجرد واجهات لتمرير الخطط الكبرى التي تنفذها الإدارات الأمريكية المتعاقبة للسيطرة على الولايات المتحدة ودول العالم واستغلال واستنزاف ثرواتها الطبيعية والبشرية لصالح تلك الشركات العملاقة.
فالأمر كله لا يرتبط بالوجوه أو الأشخاص أو الأحزاب، بل يتعدى كل ذلك ليقف فقط عند تنفيذ المخطط الموضوع مسبقاً، فالحرية الممنوحة للشعب تقتصر على اختيار الحافلة واختيار السائق واختيار الطريق واختيار مقعدك أيضاً، ولكنها لا تتضمن اختيار الوجهة النهائية التي تم اختيارها للجميع مسبقاً!

وقد يبدو لك الأمر كله هنا مجرد مبالغة ساذجة، أو إغراق في نظرية المؤامرة والمؤامرة المركبة، فكيف يمكن لأي شركة أو مجموعة من الأشخاص التحكم في أكبر دولة في العالم ؟!

ولا ألومك هنا ..

فلكي يمكنك أن تتخيل حجم سيطرة هذه الشركات، لا بد أن تعرف أن هنك ما يقارب 11 مليون شركة في الولايات المتحدة الأمريكية (طبقا لآخر إحصاء في مارس 2020) تضخ ما يزيد على 20 تريليون دولار في الناتج القومي الأمريكي، ولكن ما يجب أن تعرفه أيضاً أن 1000 شركة فقط من هذه الشركات مسؤولة عن 12 تريليون دولار أمريكي أي ما يوازي 60% من الناتج القومي الأمريكي، أو ما يساوي 15% من اجمالي الناتج القومي لكل دول العالم مجتمعة والبالغ 80 تريليون دولار!

الشيئ المميز هنا هو ذلك التوافق والتناغم الشديد بين تلك الشركات بحيث لا تتصادم أو تتعدى مناطق نفوذها للتعدي على بعضها البعض، بل العكس تماماً هو ما يحدث بقيامها بتشكيل جماعات تمارس مختلف وسائل الضغط للتأثير على القرار الحكومي والتشريعي كي يتوافق مع أهدافها ومصالحها  في الداخل والخارج ، بما جعل بعض هذه الشركات مرتبطة بالتأثير على معايير و سياسات الأمن القومي للولايات المتحدة بل والتدخلات العسكرية التي قامت بها في جميع أنحاء العالم طوال عقود!

وما يثير الإعجاب أيضاً في أسلوب جماعات الضغط والمصالح في الولايات المتحدة هو سعيها الحثيث لجعل كل ما تقوم به وما تهدف إليه مدعوماً بظهير علمي من خلال إنشائها وتمويلها لمراكز الدراسات الاستراتيجية وتوظيف نخب العاملين الحاليين والسابقين في وزارات الدفاع والخارجية ووكالات الاستخبارات والأمن القومي بها للتسويق للقرارات المطلوبة في إطار أكاديمي، وتقديم الخدمات الاستشارية في مجال السياسة الخارجية، أو بالظهور في وسائل الإعلام المختلفة للتأثير على توجهات ومزاج المواطن العادي وجعله أكثر قابلية للموافقة على القرارات المطلوبة.

 ولكي أعطيك لمحة سريعة عن مجال واحد من هذه المجالات التي تسيطر عليها تلك الشركات، وهو مجال صناعة السلاح، عليك أن تعرف أن العقود "المعلنة" لوزارة الدفاع الأمريكية لسنة 2019 فقط بلغت 400 مليار دولار ذهبت لعشر شركات فقط هي لوكهيد مارتن، بوينج، جينرال دايناميكس، رايثيون، نورثروب، يوناينتد تكنولوجيز، هنتنجتون الصناعية، هومانا، هاريس، و بي إيه إي سيستمز. وهذا بالطبع لا يتضمن عقود هذه الشركات مع دول العالم.
 ( ملاحظة : إجمالي الناتج القومي المصري يبلغ 300 مليار دولار فقط في عام 2019 مقارنة بما يساوي 250 مليار دولار في 2018)

ويمكنك الآن أيضاً عزيزي القارئ أن تفهم لماذا لم يتم اتخاذ إجراءات "مناسبة" في أعقاب الأزمة المالية في عام 2008 حيث كان متوقعاً من البيت الأبيض والكونجرس أن تتخذ إجراءات تشريعية سريعة تجبر الشركات الكبرى على التقيد بمعايير محاسبية أكثر صرامة ودقة  تدافع عن مصالح المساهمين والمودعين والموظفين والعملاء والملايين من العمال والطبقة الوسطى، وهو ما لم يحدث! تماماً كما لم يتم تمرير تشريع الضرائب التصاعدية على الشركات الكبرى، بل على العكس، حصلت بعضها على إعفاءات ضريبية تحت مبررات عديدة !

ويمكنك أيضا تفهم تعاون تلك الشركات مع وكالة المخابرات المركزية والحكومة الأمريكية ليمكنها العمل، تعاوناً أو احتلالاً أو تنفيذاً لقرارات وعقوبات دولية، في دول معينة مثل الدول النفطية حيث تقوم بتنفيذ وتشغيل مشاريع ضخمة في البنية التحتية في تلك الدول مقابل إستمرار تدفق النفط بأسعار متفق عليها، واستعمال تلك الدول لفائض الإيرادات النفطية في شراء سندات الخزانة الأمريكية في نهاية المطاف!

خلاصة الأمر ..

ليس عليك أن تقف مذهولاً من جرأة شركات مثل تويتر وفيسبوك وآبل وجوجل لتقوم بالحجر على حق رئيس اقوى دولة في العالم في مخاطبة شعبه ..

 أو تحريض زعيمة الأغلبية الديمقراطية في أكبر صرح دستوري وتشريعي و ديمقراطي في العالم للقادة العسكريين على التمرد و عدم تنفيذ أوامر القائد الأعلى للقوات المسلحة ..

أو من انقلاب نائب الرئيس عليه في أحلك الظروف التي كان يجب أن يقف بجانبه فيها أخلاقياً وسياسياً ..

عليك فقط أن تدرك أن الآباء المؤسسين لجمهورية الولايات المتحدة الأمريكية لم يؤسسوها من أجل حماية الحريات وحقوق الإنسان وبناء جنة للديمقراطية هناك في العالم الجديد، بل أسسوها من أجل تحقيق أهدافهم وحماية مصالح حلفائهم من الجماعات والأسر الثرية التي خرجت من أوروبا للسيطرة على العالم بأسره وليس ذلك الذي اكتشفه كولومبوس وأمريكو فيسبوتشي فقط!