Thursday, December 18, 2025

إتعلم تقول "لأ" !

 


إتعلم تقول "لأ" !


بقلم: إيهاب الشيمي

 

ما سأقوله الآن ليس مقصوراً على تجربة شخصية بصورة حصرية، أو على بيئة العمل التي أشتغل بها حالياً، أو حتى على المجال الذي أعمل به، بل هو أمر يمر به الكثيرون، ودعوني أدعي أن عدد من يمرون بهذه التجربة يفوق أكثر من نصف العاملين في كافة المجالات وداخل جميع أنواع المؤسسات: المحلية ومتعددة الجنسيات، الصغيرة والعملاقة، الناشئة والعريقة !

 

فهناك دائماً هؤلاء الأشخاص الذين لا يرتبط مجال عملهم بصورة مباشرة بك داخل المؤسسة ممن يتألقون وتحيط بهم تلك الهالة من "النجومية" التي تتمنى معها أن تصل يوماُ ما إلى ما وصلوا إليه، سواء على صعيد المناصب، أو العلاقات، أو الراتب، بل وحتى المظهر الذي يحرص هؤلاء على أن يكون على "سنجة عشرة" في كافة الأوقات!

 

وفي الغالب، يأتي فجأة ذلك الحدث الذي يمنحك فيه هؤلاء كل الاهتمام والوقت رغم مشاغلهم العديدة، بل ويمنحونك كذلك ما ترغب سماعه من عبارات المديح والإطراء وكيف أنك أنت ملاذهم الوحيد لتحقيق أهداف المؤسسة التي فشل الآخرين في الإدارات الأخرى في مساعدتهم على تحقيقها، فتندفع بكل قوة لمد يد العون لهم ولفريق عملهم ومنحهم خبراتك العملية، ومواردك المهنية، ومجهودك الشخصي نحو تحقيق تلك الأهداف وأنت تظن أنك بذلك ستنال من المؤسسة ما تستحقه من تقدير بل وستدخل كذلك في دائرة الضوء التي تحيط بهم لتصبح أقرب من غيرك إلى "نجوم الشباك" !

 

ولكن .. !!

وغالباً ما يختفي كل ذلك الاهتمام وكل ذلك التقدير في ذات اللحظة التي يحصل فيها هؤلاء على مبتغاهم لينسبوا لأنفسهم كل الفضل، ويحذفوا من سجلاتهم كل جهودك وخبراتك ووقتك ومساهماتك التي لولاها لما تحقق شيئ مما ينسبونه إلى أنفسهم فقط، ولتجد صفحات Linkedin  مليئة بالصور التي لا تظهر أنت في أي منها، وتجد صندوق بريدك ملئ بالرسائل التي تحتفي بالانجازات التي تحققت بينما لا يظهر اسمك أو اسم فريقك في أية رسالة منها!

 

نعم ستكتشف أنهم لا ينظرون إليك إلا كمجرد Resource  تنتهي الحاجة إليه فور تحقيق أهدافهم، لدرجة أنهم قد لا يوجهون لك الشكر و لو بشكل شخصي وشفهي، بل وقد يصل الأمر ألا يلقوا عليك التحية في اليوم التالي !

 

وحينها ستسقط في الخطيئة الأعظم قي حق نفسك وتسقط في الفخ الذي أتقنوا صناعته لتظن أن هذه هي قيمتك الحقيقية، وأنك لا ترقى إلى مرتبة تؤهلك للحصول على اهتمامهم، أو أن قدرك في المؤسسة أدنى من أن تحصل على التقدير الواجب منها!

 

وأود هنا أن أصفعك على وجهك بشدة لتستفيق من كل تلك الأفكار التي تجول بخاطرك ..

 

فما عليك أن تكتشفه فعلياً لا يتعلق بقيمتك، بل بأن تدرك جيداً أنهم ليسوا بتلك المثالية التي كنت تظن أنهم يمثلونها، فما قد يظهر أنه ثوب جميل ناصع البياض يثير الإعجاب من الخارج، قد يخفي وراءه خرقة داكنة السواد من نسيج مهلهل يثير الاشمئزاز !

فدائماً ما يخفي هؤلاء انتهازيتهم بذلك المظهر الخادع والكلام المنمق والعلاقات المتشعبة، ودائماً ما يصلون إلى ما وصلوا إليه من خلال استغلال خبرات ومجهودات الآخرين، وأنت بالتأكيد منهم، لتحقيق أهدافهم الآنية التي تتيح لهم بالتالي ارتقاء درجات أعلى في سلم المؤسسة، رغم افتقارهم للكثير  مما تحتاجه مناصبهم تلك !

 

إن قيمتك الحقيقية تنبع من احترامك لذاتك وثقتك بنفسك وقناعتك أن وجودك داخل المؤسسة يشكل دائماً إضافة لتلك المؤسسة وسعيها نحو تحقيق أهدافها، ويجب أن يكون هذا الإحساس نابعًا من داخلك لا معتمدًا على رأي "نجوم الشباك" وتقربهم إليك حين احتاجوا إليك أو تجاهلهم لك حين انتفت الحاجة إلى وجودك. فلا يمكن أن تطلب من الآخرين أن يثقوا بقدراتك وقيمتك وأنت تفتقد الثقة بنفسك وقيمتك من الأساس.

 

ولست هنا بصدد إشعال حرب داخل المؤسسة بين "الانتهازيين" و"المخدوعين" و "فاقدي الثقة بأنفسهم"، ولكني بصدد توجيه بعض النصائح لك لتتمكن من أداء مهام عملك وخدمة مؤسستك على النحو المطلوب ، فالمهم أن تتصرف بحكمة وليس أن تعبر عن غضبك أو أن تظهر لهؤلاء أنك اكتشفت هويتهم الحقيقية، ففي النهاية يجب عليك أن تتعاون معهم إذا اقتضت مصلحة المؤسسة ذلك!

 

والشيئ الأهم في نظري، هو ألا تأخذ الأمور على محمل شخصي، فلست أنت تحديداً المقصود بسلوكياتهم، بل شعورهم الداخلي بنقص الخبرة والرعب من أن يلمع غيرهم هو ما يحفزهم على فعل ما يفعلونه بك وبغيرك!

 

لا تتأثر بكلامهم عنك أو طريقة تعاملهم معك، فأنت أدرى بقيمتك منهم جميعاً، وعليك أن تتذكّر جيداً أن قيمتك تنبع من داخلك، وأنك لست بحاجة إلى من يثبتها لك. كما أن توضيح حدودك في التعامل مع الآخرين أمر ضروري، حتى يدرك الجميع أن تجاوز هذه الحدود غير مقبول.

 

قلل من تواجدك معهم خلال فترات الراحة أو المناسبات والأحداث المهنية وكن حذراً فيما تشاركه معهم من معلومات شخصية أو مهنية، وامنح وقتك في المقابل للتركيز على تطوير ذاتك في مجال عملك وتخصصك داخل المؤسسة بما يعود بالنفع على المؤسسة بشكل عام وليس على ظهورك في "الأفيشات" مع "نجوم الشباك"

 

تحدث مع زملاء تثق بهم أو مديرك (إذا كان مناسباً) لطلب المشورة أو المساعدة والدعم، وتجنب الشكوى لأنها بكل بساطة ستظهر افتقادك للثقة بنفسك، وهو ما أحاول بشدة هنا أن أقنعك أنه قناعة خاطئة !

 

والأهم من كل ذلك هو أن تتعلم أن تقول "لأ" لهؤلاء .. فالذوق وروح الزمالة والحرص على مصلحة المؤسسة ينبغي أن تكون داخل إطار يضمن مصالح الجميع، ويضمن حصول كافة الأطراف على التقدير الواجب، والأهم هو أن تتأكد حين تنخرط في أية مساهمة أن المؤسسة تعلم جيداً حجم الجهد وإسهام الخبرات المتراكمة وكم الموارد التي قدمها كل شخص للوصول للنتيجة المطلوبة !



Saturday, November 1, 2025

هنا القاهرة .. حيث يبدأ التاريخ، ويُكتب المستقبل !

 




بقلم : إيهاب الشيمي

في لحظة ينتظرها المصريون منذ أكثر من عشرين عاما، يفتح المتحف المصري الكبير أبوابه اليوم ليكون شاهداً على أعظم حكاية عرفها التاريخ: حكاية وطن لا يُهزم، وحضارة لا تُنسى، وشعب لا يعرف اليأس.

إن افتتاح هذا الصرح العظيم ليس مجرد حدث ثقافي أو سياحي، وليس مشروعاً حكومياً عابراً ضمن قائمة مشروعات البنية التحتية الطويلة التي طالما تشدقت بها أبواق الجمهورية الجديدة؛ بل إعلان صريح بأن مصر، رغم كل التحديات، ورغم سبق العديد من الأشقاء لنا  اقتصادياً وتكنولوجياً، لا تزال هي صاحبة الريادة في الحضارة والهوية والذاكرة الإنسانية.

ولا يمكنني هنا عزيزي القارئ أن أرى  المتحف المصري الكبير مجرد صرح ضخم تشكل من الحجارة والزجاج، بل أراه روح مصر المتجسدة في زمن الحروب والاضطرابات التي تحيط بنا من كل جانب ... أراه  رسالة تقول للجميع، لأبنائها قبل ضيوفها، ولمحبيها قبل أعدائها،  أن القوة لا يمكن حصرها في أرقام الاقتصاد أو بريق التكنولوجيا أو ترسانات الأسلحة، بل في القدرة على حفظ التاريخ، وصناعة المعنى، وتقديم قيمة إنسانية تتجاوز حدود الزمن. ومهما تغيرت موازين القوى في المنطقة، ستبقى مصر هي حجر الزاوية التي لو سقطت لانهارت المنطقة برمتها،  وستبقى رغم ادعاءات الموتورين وأكاذيب الحاقدين صاحبة أول حضارة علمت العالم النظام، والكتابة، والعمارة، والروحانية، والفكر.

إن هذا المشروع العملاق تجسيد لقدرة الشعب المصري على الإنجاز مهما كانت الصعوبات، وكيف أنه خلال وقت ظن البعض أن الظروف الاقتصادية والسياسية قد تعطل الحلم، كانت الإرادة المصرية تعمل بصمت .. تبني وتخطط، وتواجه التحديات خطوة بخطوة. إن هذا المشروع ببساطة يحكي كيف اتحدت أحلام العاشقين، وإبداعات المعماريين، وعقول المهندسين، وجهود العمال، وإصرار الدولة، بل والسلطة البائدة بكل مثالبها والسلطة الحالية رغم كل ما يوجه إليها من انتقادات وكل ما يشوب أداءها من سلبيات، كيف اتحدت كل هذه العوامل لتنصهر داخل بوتقة واحدة لتؤكد للجميع إيمان المصريين بأن دولتهم لا تزال وستظل دوماً قادرة على أن تبهر العالم.

ولأن مصر قلب المنطقة ومحورها التاريخي، يأتي افتتاح المتحف في وقت يموج العالم العربي بالاضطرابات والنزاعات، ليقف كرمز للاستقرار والثبات بينما تتغير الخرائط السياسية وتتشابك المصالح الإقليمية، لتبقى القاهرة ثابتة، ولتقدم للعالم نموذجاً بأن الحضارة الحقيقية لا تعرف السقوط، وأن قوة الدولة الحقيقية تظهر في قدرتها على البناء وقت الشدة، لا في الاحتفال والتباهي والتعالي على الآخرين وقت الرخاء.

ويجب أن ألفت انتباهك هنا عزيزي القارئ إلى أن مشهد حضور الرؤساء والملوك وكبار الشخصيات من مختلف أنحاء العالم هو دليل لا يقبل الشك على مكانة مصر الدولية والإقليمية. فالمال وحده لا يجذب هذا الحضور، ولا الإعلام وحده يصنع هذا المشهد. إنما الأمن، والاستقرار، والهيبة التاريخية، والدور السياسي المتوازن الذي تحافظ عليه مصر في أصعب الظروف. إن وجود أكثر من 79 وفداً رسمياً وحضور أكثر من ثلاثين رئيس وملك ورئيس حكومة لهو اعتراف صريح بأن القاهرة لا تزال بوابة التاريخ، ومركز القرار، وجسر التواصل بين الحضارات.

ولكن .. رغم كل تلك الشواهد، دعني أخبرك بما جلب السعادة الأكبر إلى قلبي هنا .. فذلك الافتتاح ليس فقط للمتحف، ولا تدشيناً للاحتفالات الرسمية. بل هو في رأيي يتخطى كل ذلك ليمثل لحظة بعث للأمل في قلوب الشباب المصري؛ رسالة تقول لهم إن وطنهم، مهما أرهقته التحديات، لا يزال قادراً على النهوض، ولا يزال قادراً على أن يحتل مكانه الطبيعي بين الأمم. إن هذا اليوم ليس تذكرة بالماضي فقط، بل دعوة للمستقبل، دعوة للعمل، والإبداع، والتمسك بالهوية. فكل قطعة أثرية داخل هذا الصرح، وكل حجر في جدرانه، ينطق بقيمة الوطن ويدعو أبناءه لأن يكونوا امتدادًا لحضارته، لا مجرد متفرجين على مجده القديم.

إن المتحف المصري الكبير ليس مجرد مبنى يضم آثار الفراعنة، بل بيت روح مصر؛ ماضيها الذي يشهد بعظمتها، وحاضرها الذي يؤكد صمودها، ومستقبل شبابها الذي يحمل الراية. إنه صوت يقول للعالم: هنا مصر. أرض الحضارات، ومهد الإنسانية، وبلد السلام، والقدرة، والحلم الذي لا يموت.

اليوم، الأول من نوفمبر من عام 2025،  لن نحتفل بالمتحف فقط، بل سنحتفل بالروح المصرية التي لا تنكسر، وبالأمة التي  تعرف طريقها جيداً، مهما حاول الآخرون طمس معالم الطريق!

هنا القاهرة… حيث يبدأ التاريخ، وحيث يُكتب المستقبل.


Saturday, May 10, 2025

المشاركة المصرية .. في النصر على النازية !

 


بقلم : إيهاب الشيمي

منذ صباح ألأمس وأنا أتابع على وسائل التواصل الاجتماعي الكثير من المنشورات والنقاشات التي تتناول أسباب مشاركة مصر في احتفالات روسيا بالذكرى الثمانين للانتصار على النازية في مايو 1945، خاصةً أنها المرة الأولى في التاريخ التي تظهر فيها عناصر من القوات المسلحة المصرية في عرض عسكري في الميدان الأحمر، وهو ما لم يحدث حتى في ذروة التحالف العسكري بين مصر والاتحاد السوفييتي خلال ستينيات القرن الماضي !

وكالعادة، كانت معظم النقاشات سجالاً سخيفاً بين "الموالاة" و "المعارضة" .. بين المؤيدين على الدوام لأية خطوة أو قرار تتخذه السلطة وكأنها معصومة من الخطأ أو المراجعة، وأولئك المعارضين والمنتقدين على طول الخط رغم اختلاف المواقف والظروف والأحداث دون تقديم حلول أو مقترحات بديلة، لتجد نفسك في النهاية في خضم بحر من "الهري" و "الهري المضاد"، ، ويكفي أن أشير إلى أن الأمر وصل في بعض الأحيان لدرجة من السخافة والسطحية في التناول للحد الذي دفع البعض  للادعاء أن زيارة الرئيس السيسي إلى روسيا جاءت على سبيل "الكيد" في الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بعد مطالبته لمصر بمرور السفن الأمريكية في قناة السويس دون سداد أية رسوم !

ودعني عزيزي القارئ أطرح عليك قناعتي أن معظم المصريين يفتقرون إلى الحد الأدنى من الإلمام بطبيعة العلاقات المصرية الروسية، ويحصرون مصالحنا الحالية معها في القرض الذي قدمته روسيا لمصر بقيمة تتجاوز 28 مليار دولار لإنشاء محطة الضبعة النووية التي ستوفر  4800 ميجاواط من الكهرباء من خلال مفاعلاتها الأربعة، وشحنات القمح الروسي التي تضمن الأمن الغذائي لغالبية الشعب المصري!

ولكن الأمر في الواقع يتجاوز ذلك بكثير ليشمل دور روسيا المتنامي في دعم مصالح مصر الإقليمية في إفريقيا وليبيا والبحر الأحمر، من خلال التعاون العسكري، والاقتصادي، والدبلوماسي، والذي يمكن إيجازه في الشطور التالية.

ففي ليبيا، دعمت مصر و روسيا الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر  عسكريًا وسياسيًا  في مواجهة حكومة الوفاق السابقة المدعومة من تركيا، وهو التوافق الذي عزز النفوذ المصري شرق ليبيا، وضمن وجود قوة صديقة لمصر قرب حدودها الغربية، كما أن تبادل المعلومات والتنسيق الاستخباراتي بين موسكو والقاهرة في الملف الليبي ساهم بشكل فعال في منع تدفق الإرهابيين والسلاح عبر الحدود وعمل على الحد من النفوذ التركي في غرب ليبيا، رغم علاقات روسيا المعقدة مع تركيا، مما يصب في مصلحة مصر، التي ترى في أنقرة خصمًا إقليميًا في بعض الملفات الرئيسية، ولا يؤكد ذلك أكثر من توجه الرئيس بوتين بعد مراسم عرض عيد النصر إلى المشير خليفة حفتر بصفة خاصة ليتبادل معه الحديث أمام الجميع من رؤساء وفود الدول المشاركة في الاحتفال، بينما لم يصافح أو يتناول أية أحاديث أخرى إلا مع قادة جيش كوريا الشمالية الذين ساهموا في تحرير إقليم كورسك منذ أسبوعين تقريبا.

أما في إفريقيا، فتقوم موسكو بدعم سياسي لاستراتيجية مصر في النيل والقرن الإفريقي حيث وقفت على الحياد رسميًا في ملف سد النهضة رغم ارتباط حليفها القوي في بكين بمصالح أديس أبابا، وسعت إلى لعب دور "وسيط ناعم"، مما أتاح لمصر كسب دعم دبلوماسي في المحافل الدولية، كما أن روسيا تدعم مصر بشكل غير مباشر في شرق أفريقيا عبر تعزيز علاقاتها مع السودان وأريتريا في مواجهة التغلغل التركي هناك، وهي دول مهمة لمصر في أمن البحر الأحمر وخطوط الملاحة. كما أن نجاح جهود روسيا في إنشاء قاعدة روسية في بورتسودان سيجعلها على مقربة من قناة السويس بعد انحسار نفوذها في شرق المتوسط في سوريا، وهو ما سيمنح مصر ورقة تفاوضية إضافية في ملفات الملاحة والدفاع، وسيجعل مصر شريك عسكري واستراتيجي لا بد منه لروسيا، وهو ما دفع روسيا خلال الفترة الماضية لدعم فكرة ضمان الأمن الجماعي في البحر الأحمر، وأن تبدي استعدادًا لمساعدة مصر في تطوير قدراتها البحرية، بل وتنفيذ مناورات بحرية مشتركة مع الجانب المصري في البحرين الأسود والمتوسط، مما يعزز التعاون الدفاعي ويمنح مصر شرعية أكبر في قضايا الأمن البحري.

ما لا يدركه البعض أيضاً، هو أن روسيا أصبحت على رأس شركاء تسليح الجيش المصري خلال العقد الماضي لدرجة جعلتها تتجاوز الولايات المتحدة من ناحية قيمة الصفقات المبرمة أو نوعية الأسلحة التي تم استلامها، فخلال العقد الماضي (2015–2025)، قامت مصر بتحديث وتوسيع ترسانتها العسكرية من خلال شراء مجموعة متنوعة من الأسلحة الروسية، وذلك في إطار استراتيجية تهدف إلى تنويع مصادر التسليح وتعزيز القدرات الدفاعية، وزادت صادرات الأسلحة الروسية إلى مصر بنسبة 44% بين فترتي 2013–2017 و2018–2022، مما جعل مصر ثالث أكبر مستورد للأسلحة الروسية.

فلقد تعاقدت مصر على شراء 50 طائرة من مقاتلات ميغ-29M/M2 ، ضمن صفقة شملت أيضًا منظومات دفاع جوي من طراز SA-23 وSA-17، و46 مروحية هجومية من طراز Ka-52، بقيمة إجمالية تُقدّر بنحو 5 مليارات دولار. 

كما تعاقدت مصر على شراء منظومة الدفاع الجوي S-300VM (أنتي-2500) بقيمة مليار دولار. 

ووقعت مصر كذلك صفقة لشراء 20 طائرة من مقاتلات سوخوي-35 بقيمة 2 مليار دولار. 

وتعاقدت مصر أيضاً على شراء 500 من دبابات T-90  بقيمة تُقدّر بنحو 2.5 مليار دولار، إلا أن موعد التسليم لم بتم الإفصاح عنه بعد من الجانبين.

 وبنظرة سريعة على تلك الصفقات نجد أن حجمها يتجاوز 10.5 مليار دولار، ويتخطى تلك المبرمة مع الجانب الأمريكي بحيث لا يتفوق عليهما سوى الصفقات مع الجانب الفرنسي التي تجاوزت 11 و نصف مليار دولار  أمريكي كان على رأسها حاملتي ميسترال و مقاتلات الرافال، وهو ما يؤكد التزام مصر بتعزيز قدراتها الدفاعية من خلال التعاون مع روسيا، مع التركيز على تنويع مصادر التسليح وتحديث الأنظمة القائمة بعد أن كان كل ذلك رهينة بيد الولايات المتحدة فقط طوال ما يزيد على أربعة عقود !

الخلاصة عزيزي القارئ، وبعيداً عن سخافات المؤيدين وصياح المعارضين، هي أن روسيا رغم كل شيئ و رغم الحصار والعقوبات الدولية عليها تمثل لمصر شريكًا استراتيجيًا لا غنى عنه سياسياً واقتصادياً وعسكرياُ في موازنة القوى الإقليمية، ودعم المواقف المصرية في ليبيا وأفريقيا، وتعزيز القدرات الدفاعية والبحرية المصرية في البحرين الأحمر والمتوسط، بالإضافة لكونها شريكا أساسياً في خطط تنمية البنية التحتية ودعم الأمن الغذائي.

حفظ الله مصر !


ملحوظة : يمكنك مطالعة المزيد من التفاصيل حول الأسلحة الروسية إلى مصر في نهاية المقال:

 

 فيما يلي أبرز الأسلحة الروسية التي حصلت عليها أو تعاقدت عليها مصر خلال الفترة من 2013 وحتى 2025

 

القوات الجوية :

مقاتلات ميغ-29M/M2: تعاقدت مصر على شراء 46 مقاتلة من طراز ميغ-29M/M2، وهي طائرات متعددة المهام من الجيل الرابع، قادرة على تنفيذ مهام جو-جو وجو-أرض، وتتميز بقدرتها على استخدام صواريخ موجهة بدقة دون الحاجة للدخول في نطاق الدفاعات الجوية المعادية. 

مروحيات كا-52 "التمساح": تسلمت مصر 40 مروحية هجومية من طراز كا-52، من أصل 46 تم التعاقد عليها. تتميز هذه المروحيات بقدرتها على تنفيذ مهام الاستطلاع والهجوم، ويمكنها التنسيق مع مروحيات أخرى أثناء العمليات. كما تم التعاقد على نسخة بحرية من هذه المروحيات للعمل على متن حاملات المروحيات من طراز "ميسترال". 

تم توقيع عقود لتسليم 20 طائرة من مقاتلات سوخوي-35 مقاتلة وهي مقاتلة تفوق جوي روسية متعددة المهام، أحادية المقعد ثنائية المحرك، وهي ذات قدرة فائقة على المناورة تنتمي إلى الجيل 4++ المعزز، وتمنج القوات الجوية المصرية تفوقاً نوعيا رهيباً بما دفع الولايات المتحدة للتهديد بتوقيع عقوبات على مصر فور تسلمها لتلك الطائرات.

أنظمة الدفاع الجوي

منظومة "أنتي-2500" (S-300VM): حصلت مصر على ثلاث بطاريات من هذه المنظومة الدفاعية بعيدة المدى، القادرة على التصدي للطائرات الحديثة والصواريخ الباليستية متوسطة المدى. 

منظومة "بوك-M2": تعاقدت مصر على عدد من بطاريات هذه المنظومة المتوسطة المدى، القادرة على التعامل مع أهداف جوية متنوعة، بما في ذلك الطائرات والمروحيات والصواريخ. 

منظومة "تور-M2": تمتلك مصر هذه المنظومة قصيرة المدى، التي تتميز بقدرتها على اكتشاف وتدمير الأهداف الجوية أثناء الحركة، وتستطيع التعامل مع عدة أهداف في وقت واحد. 

صواريخ "إيغلا-S" المحمولة على الكتف: تعتبر من أقوى صواريخ الدفاع الجوي المحمولة، قادرة على إسقاط الطائرات التي تحلق على ارتفاعات منخفضة، وتتميز بسرعة استجابة عالية. 

القوات البحرية

زورق الصواريخ "مولنيا" (R-32): أهدت روسيا لمصر زورقًا من طراز "مولنيا"، مزودًا بصواريخ "موسكيت" البحرية، التي تتميز بسرعتها العالية وقدرتها التدميرية الكبيرة.

أنظمة الحماية الإلكترونية

منظومة "بريزيدنت-S": تعاقدت مصر على هذه المنظومة لحماية الطائرات والمروحيات من الصواريخ الموجهة، حيث توفر حماية فعالة ضد تهديدات "أرض–جو" و"جو–جو". 

تحديث وتطوير الأنظمة القائمة

تحديث أنظمة الدفاع الجوي القديمة: قامت مصر بتحديث أنظمة الدفاع الجوي الروسية القديمة مثل "بيتشورا 2M" و"سام-6"، بالإضافة إلى تطوير محطات الرادارات وأنظمة التوجيه الإلكترونية.

Saturday, May 18, 2024

تجديد الخطاب .. بين صحيح الدين وأطروحة "تكوين"


بقلم : إيهاب الشيمي


ترددت كثيراً قبل أن أقرر إعادة الكتابة حول مسألة " تجديد الخطاب الديني" التي شغلت مساحة كبيرة من صفحات الجرائد و البرامج الحوارية بعد الإعلان عن تأسيس وإطلاق مؤسسة تكون الفكر العربي، ناهيك عن شبكات التواصل الاجتماعي التي ملأها الجميع صراخاً وعويلاً كثيرة دفاعاً عن مواقفه وشحذاً لهمم مؤيديه، أو وسباباً و هجوماً في أحيان كثيرة على من يعارضونه، للحد الذي وصل لإثارة الأمر في ساحات القضاء واجتماعات مجلس النواب بل ودعوة البعض لتكفير من لا يوافقونهم الرأي والمطالبة بقتلهم !

 

ولن أكون هنا طرفاً في الأمر الذي تحول في رأيي لصراع، ولن أكون منتمياً لأحد الجانبين، ولن أخوض بالتاكيد في أمور فقهية ودعوية، فقدري أدنى من أن أخوض فيما وهب له علماء حياتهم بأكملها، ولكني أريد فقط أن أوضح بعض النقاط التي أظن أنها قد غابت عمن خاضوا هذا النقاش و فقدوا بسبب ذلك الموضوعية المطلوبة في مثل هذه الأمور ..


أول هذه النقاط هو أنه وبالرغم من وجود جامعة الأزهر ومؤسسة "تكوين" في القاهرة، وعلى الرغم من أن الدعوة لتجديد الخطاب الديني جاءت من جانب الرئيس السيسي خلال مؤتمر الشباب في عام 2018، وهو من أكد مجدداً على موقفه في سبتمبر 2021 حين أعلن احترامه للجميع، من يعتقد بأية ديانة بل ومن لا يعتقد على الإطلاق، إلا أن ذلك لا يعني أن الإسلام يحمل الجنسية المصرية فقط، أو أن تلك المهمة مقصورة على علماء الفقه والشريعة والحديث ورجال الدعوة المصريين دون غيرهم، فحين يتجاوز تعداد المسلمين المليار و نصف المليار في أكثر من ثمانين دولة فلا يمكننا حصر تنقيح النصوص في الأزهر، أو أن ننصب يوسف زيدان وإبراهيم عيسى وإسلام بحيري ورفقائهم في مؤسسة "تكوين" رموزاً وزعماء لتيار التنوير والتجديد وتعزيز قيم الحوار وإعلاء مبادئ التسامح في العالم الإسلامي بأسره، متجاهلين بذلك المئات من المجددين ممن سبقوهم على مر التاريخ الإسلامي، والملايين ممن ينتشرون حالياً في العالم بأسره خارج مصر.

 

الأمر الثاني، هو قناعتي أن صحيح الدين الذي أنزله الله سبحانه وتعالى ليصلح لكل الشعوب وكل الأزمان، وليواكب كل التطورات، ليس هو ما يصر معظم رجال الدعوة وعلماء الأزهرعلى حصره في كتب التفسير والسنة والحديث المتوارثة منذ مئات السنين، والتي تم جمعها وصياغتها وكتابتها بناءً على فهم من صاغوها في أزمانهم، وفي إطار معطيات اجتماعية وثقافية وعلمية محدودة مقارنةً بما هو متاح حالياً وبما تم اكتشافه من أسرار وحقائق علمية خلال العصر الحديث!

فقناعتي أن صحيح الدين، هو ما أوحى الله به إلى عبده و رسوله محمد  ليوافق الفطرة السليمة التي فطر الله الانسان عليها والتي لا تختلف أسسها ومعاييرها مهما اختلف الزمان أو المكان أو اللسان أو الثقافة، وتعاليمه هي التي تؤكد قيم الحرية و المساواة والعدل والتكافل، التي تشترك في احترامها كل الأنظمة السياسية والاجتماعية، بل وكل العقائد حتى غير السماوية منها، بما لا يتعارض مع المنطق الصحيح والعلم الثابت بالأدلة القطعية، مع يقيني بوجود المعجزات التي أجراها الله على يد رسله وأنبياءه لهدف معين، وفي وقت محدد أراد به تثبيت أسس الإيمان في قلوب من آمنوا، ودغدغة عقول من لم يؤمنوا ليعيدوا حساباتهم، أو يستمروا في الإيمان بكل ما هو مادي فقط !

 

الأمر الثالث، و هو أن الدين ليس مجرد تعاليم و نصوص تخضع لإعمال كل شخص لعقله على حدة دون أن يكون لديه الخلفية المرجعية اللازمة لقراءة النصوص، وفهم المحتوى الذي نزلت في إطاره، وكذلك استيعابه للصورة الأشمل التي تتيح له فهم مدى ارتباطها ببعضها البعض، بل ونسخ بعضها للآخر في بعض الأحيان. و لو أن الأمر خاضع لتفسير كل منا للنص دون الحاجة لعلوم الحديث والفقه والشريعة والقياس والاجتهاد، بحجة أن الدين علاقة خاصة بين العبد وربه، فلا يمكننا حينها أن ننتقد ما ذهب إليه الملايين من المتطرفين عبر التاريخ الإسلامي ممن أعملوا عقولهم وفسروا النصوص تبعاً لمنطقهم الخاص ليخرج علينا في النهاية جماعات مثل الحشاشين والإخوان المسلمين والقاعدة وداعش وأنصار بيت المقدس، بل ومن لا يقلون خطراً عنهم، وان اعتقد البعض غير ذلك، ممن كانوا يخرجون أسبوعياً في مسيرات كرداسة وعين شمس و المطرية وحلوان في أعقاب الإطاحة بنظام الإخوان المسليمن في 2013!

 

الأمر الأخير، و هو أن أعداء الأمة، الذين أصر  دوماً على وجودهم وعلى استمرارهم في حياكة المؤامرات ضدها رغم إنكار العديدين لذلك،  يجيدون وبدقة فائقة ودهاء شديد تحديد ما يقوض وحدتنا ويدمر هويتنا بداية من تأجيج الصراع الطبقي، ومروراً بمحاولة الفصل بين الجيش والشعب، مروراً بزرع الفتنة بين طوائف الشعب مسلمين ومسيحيين، ونهاية بما يحدث الآن من محاولة استغلال النقاش حول حرية العقيدة وضرورة تنقيح المراجع ومراجعة النصوص الدينية، للتشكيك في أهلية المؤسسات الدينية، و المرور من خلال ذلك إلى التشكيك في الفروع ، وصولاً إلى التشكيك في الأصول و تدمير أي مرجعية يمكن من خلالها مواجهة محاولاتهم لتقسيم الأمة و زرع الفرقة.

 

إن التنقيح والمراجعة وتجديد تفسير النصوص بما يوافق التطور العلمي و اختلاف منطق الأشياء و تغير طبيعة التحديات هو شئ حتمي لا مناص من حدوثه مهما رفض صقور الأزهر ذلك ومهما أصر البعض على عصمة نصوص كتب الحديث والسيرة النبوية، فبالرغم من إيماني الراسخ أن الله أنزل دينه وبعث رسوله بما يصلح لكل زمان ومكان حتى قيام الساعة، إلا أن إيماني أيضاً هو أن تفسير تلك النصوص يخضع لمنطق من قام بالتفسير لحظة قيامه بذلك، وهو ما يتغير بتقدم الزمن وتطور العلوم، فما كان مستحيلاً منطقياً منذ اربعة عشر قرناً، أصبح شديد المنطقية الآن مثل إمكانية الانتقال من طرف العالم إلى طرفه الآخر بين ليلة  وضحاها، أو إمكانية التواصل صوتاً وصورة مع شخص يبعد عنك آلاف الأميال، أو حقيقة اكتشاف أن الأرض كروية تحول قوى الجاذبية دون أن نسقط من على سطحها إلى الفضاء الواسع، أو أن يصيبنا الدوار نتيجة دورانها حول نفسها !

 

 و لكن ما علينا أن ندركه ونعيه هو أن ذلك التنقيح وذلك الحوار حول منطقية تفسير النصوص وملائمتها للمنطق ومواكبتها للتطور يجب أن يتم من خلال القنوات الصحيحة ومن خلال من نثق في علمهم ونتأكد من إخلاصهم لدينهم وأوطانهم وليس لسلطة حاكمة، أو أيديولولجية فانية، أو جماعة ومؤسسة بعينها، أو لقوى خارجية تريد استغلال ما يفرقنا، أو حتى لنرجسية حمقاء يفترض معها من يريد التغيير صحة منطقه هو فقط دون غيره!

 

إن التجديد في الخطاب الديني، و مراجعة النصوص و تنقيحها ليس معياره الوحيد هو الرغبة في التغيير ومواكبة التطور، أو الإعجاب بمنطق من يدعو إليه دون معرفة دوافعه الحقيقية، بل هناك من المعايير ما يجب أن نضعه كذلك في الحسبان، حتى لا يحدث في النهاية ما حدث في دولنا خلال السنوات الأخيرة من جديد، حين كانت الرغبة في التغيير السياسي حتمية، فاندفع الكثيرون وراء من انقضوا على مسيرة التغيير دون معرفة دوافعهم و ولاءاتهم، فكانت النتيجة أن استبدلنا فساد الطغم الحاكمة بفاشية الجماعات  الدينية، و قمع و دكتاتورية الحكام بفوضى اللادولة !

 

حفظ الله مصر و شعبها و جنبها شر الفتن.

Monday, November 27, 2023

ما يحتاجه الرئيس ... !

 بقلم: إيهاب الشيمي


رغم وقوفي بثبات و دون تردد في جانب الوطن و الرئيس والجيش كخيار لا رجعة عنه ولا داعٍ لمناقشة حيثياته في هذه المرحلة الحرجة من عمر الوطن والمنطقة، بل والعالم بأسره، إلا أنني لست مؤيداً أو موافقاً من الأساس على انخراط وسائل الإعلام المصرية الرسمية وشبه الرسمية والمحسوبة على على السلطة سواء كانت تلك المرئية أوالمسموعة أوالمقروءة ، على مدارالساعة، في سرد إنجازات الرئيس خلال السنوات العشر الماضية، وكأنها جزء من حملته الانتخابية الخاصة وليست جزءاً من منظومة الدولة المصرية التي لا يجب أن تنحاز لمرشح بعينه !

قناعتي الراسخة هي أن ما يحتاجه الرئيس فعلاً ليقف بقوة في وجه مخططات القوى الخارجية و عملائها في الداخل هو الدعم الحقيقي له ولسلطاته الدستورية من خلال كيانات سياسية قوية تمثل الشعب المصري وتعكس حجم تأييده لقيادته، وليس من خلال الإعلام الموجه أو برلمان الصوت الواحد، أوالمستقبل الذي ينحصر في منظورالعين الواحدة!

ما يحتاجه الرئيس هو انتهاج سياسة إعلامية جديدة تعتمد على الشفافية مع الشعب، وتنمية الوعي لدى الجميع، كبيرهم قبل صغيرهم، ومخاطبة الخارج بلغته التي يفهمها لا بشعاراتنا الجوفاء التي استهلكناها عبر عقود من الزمن ضاعت علينا فيها الكثير من الفرص!

ما يحتاجه الرئيس هو توظيف من يمتلكون الخبرة العملية لإدارة الملفات الشائكة بصورة علمية وليس من يحظون بالثقة على حساب الإمكانيات العلمية والخبرات الحقيقية والرؤى الثاقبة !

ما يحتاجه الرئيس هو أن تتخلى الحكومة عن النظرة الاستعلائية تجاه الشعب وأن تتوقف فوراً عن التعامل معه على أنه مجرد أداة تتلاعب به وتصنفه حسبما تقتضي الأمور، فتنصبه قائداً ومعلماً وسيداً يجب طاعته حين تحتاج دعمه، وتعتبره طفلاً أخرقاً وعبئاً وإرثاً ثقيلاً حين تسوء الأحوال وتنحرف منها دفة قيادة الأمور!

ما يحتاجه الرئيس هو أن تبذل تلك السلطة كل ما في وسعها لتشرح ببساطة وسلاسة ودون تعقيد لرجل الشارع، وللفلاح في قريته، وللعامل في مصنعه، بل وللشاب اليافع في مدرسته وجامعته، ماهية التحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية التي تحيط بنا من كل اتجاه، وأهمية ما تم من إنشاء بنية تحتية كاملة، وكيف تم تقليص نسبة البطالة، وماهية الأسباب الحقيقية للزيادة غير المسبوقة لمعدلات التضخم، وعوامل التراجع الكارثي لاحتياطات النقد الأجنبي، وتفاصيل الإجراءات التي سيتم تنفيذها لتدارك كل ذلك، وتأثير تلك الإجراءات على كل فرد منهم في الحاضر و المستقبل بدلاً من تركهم فريسةً سهلة للمغرضين والعملاء والجهلاء!

ولكن .. يبقى الشيئ الأهم في قائمة ما يحتاجه الرئيس هو أن يدرك أن اختياره للقيادة، منذ عقد من الزمان، كان قراراً من الشعب فرضته ضرورات مرحلية على رأسها حفظ وحدة التراب الوطني و الإبقاء على الحد الأدنى اللازم من سيادة الدولة، وأن أمامه خيارين لا ثالث لهما، أولهما هو البقاء داخل تلك العباءة وتذكير الشعب من آن لآخر بأياديه البيضاء لإنقاذ الوطن ومحاربة الإرهاب، وتطوير قدرات القوات المسلحة، وإعادة هيكلة منظومة العلاقات الخارجية، وهي أمورلا ينكرها إلا جاهل أو حاقد ولكنها رغم كل شيئ تندرج تحت بند المهام الآنية قصيرة الأجل،  أو الخيار الثاني الذي يتطلب انتقاله من مجرد قائد مرحلي فرضته الظروف إلى قائد تاريخي يسعى لتحقيق أهداف أكثر استدامة وأعظم تأثيراً وصولاً إلى التنمية المستدامة في جميع المجالات وتحقيق الرخاء الذي يتطلع إليه كل مصري من أجل مستقبل أفضل لأبنائه !

ولا اظنك عزيزي القارئ ستختلف معي في أن الخيار الثاني، لو أراد الرئيس أن يكون ذاك هو ما يريد، يتطلب منه ما هو أصعب بكثير  من الخيار الأول !

فهو يتطلب قراراً صعباً بضرورة القضاء على كل الوجوه التي سئمها الجميع ، و العقليات المهترئة التي لا يمكنها الخروج من حقبة القرن الماضي، و الاستراتيجيات الاقتصادية العقيمة التي لا تعتمد في تنمية الموارد سوى العودة لمنطق أمراء المماليك بتنمية الموارد عن طريق فرض المزيد من الضرائب و الاستمرار في زيادة الرسوم يوماً تلو الآخر دون طرح رؤية حقيقية للحلول ..

كما يتطلب رؤية لتنمية الصناعة بشكل حقيقي عن طريق دعم استيراد مستلزمات الانتاج والعمل على تكوين خريطة كاملة لكيفية استغلال واستخراج الموارد المتاحة، و خلق شبكات الطرق والطاقة الجديدة والمتجددة بالشكل الذي يدعم هذه الصناعات، وهو ما يتطلب كذلك تصنيف تلك الصناعات وتحديد أولويات دعمها طبقاً لتأثيرها على الاقتصاد الوطني وإمكانية تكاملها مع صناعات و أنشطة أخرى لخلق فرص عمل اشمل و أوسع، و ليس فقط قصر الدعم على منح المزيد من الإعفاءات الضريبية و خفض رسوم الوقود و الطاقة التي لا تصب في النهاية سوى في خانة أرباح أباطرة الصناعة فقط ..

رؤية تشمل استراتيجية حقيقية لتنمية الصادرات ، و جذب الاستثمارات لتنمية الاحتياطيات الحقيقية والفاعلة للنقد الأجنبي، و ليس تلك الاموال الساخنة التي تعتمد فقط على سعر الفائدة المرتفع، وهو ما سيسفر في النهاية عن ضبط سعر الصرف بصورة هيكلية تضمن مصلحة المستثمر و الدولة في آن واحد، و ليس فقط عن طريق فرض اللوائح والقوانين التي تقيد التعامل في النقد الأجنبي وتحد من جاذبية مصر لفرص الاستثمار الأجنبي المباشر!

رؤية حقيقية للاستفادة من الموارد السياحية الطبيعية و الأثرية تشمل تغيير عقلية القائمين على قطاع السياحة أنفسهم بدءاً من القمة حيث يقبع رؤساء هيئات تنمية و تنشيط السياحة و نزولاً إلى أصغر حارس على مقبرة وسط الصحراء، و مروراً بأولئك الذين كسروا ذقن توت المسكين و أعادوا لصقها بالغراء في المتحف المصري، بل و تمتد لتغيير نظرة العاملين بقطاع السياحة و الشعب نفسه للسائحين كسفراء لنا حين عودتهم لديارهم، و ليس كنعاج يجب أن نجتز آخر شعرة صوف من على أجسادهم قبل أن يمكنهم المغادرة ..

وقبل ذلك كله .. رؤية لتطوير آليات و أساليب القيادة نفسها، آليات تحكمها خطوط عريضة لمعايير تقبل النقد بعيداً عن مشاعر الغضب أو الذاتية، و تحدد معايير السعي لطلب النصيحة من أولي الخبرة و الكفاءة، و تضع قواعد الحالات التي يجب فيها الاعتراف بالخطأ حين يتطلب الأمر ذلك لضمان الشفافية الكاملة، تلك الآليات و القواعد التي لا بد من إرسائها بدلاً من اللجوء دوماً لادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة و فساد كل رأي يخالف رأي القيادة، و هو ما لن يفلح سوى في إعادتنا لمرحلة ما قبل يناير التي أكد الرئيس نفسه في عدة مناسبات أنها كانت حتمية، و أنها من جاءت به من بين صفوف الشعب ليكون عوناً له على تحقيق مطالبه !

 ببساطة .. ما يحتاجه الرئيس دون دعوات، ودون هاشتاجات، ودون طلبات للتفويض ودون مسيرات ودون لافتات ودون صخب هو أن يشعر المصريون أنهم شركاء حقيقيون في نجاح الوطن و ليس مجرد أدوات يمكن استدعاؤها حين يتعلق الأمر بتحمل أعباء الإصلاح أو رفض دعوات الفوضى، وحينها فقط سيجد أعداء الوطن صعوبة كبيرة في إثارة القلق و إشعال الفتنة و إسقاط الدولة باستغلال نصاب هارب و قناة عميلة و جماعة مارقة، لأنهم سيضطرون حينها لمواجهة أمة بأكملها و شعبٍ بكامل أطيافه و انتماءاته، و ليس مجرد شخص الرئيس فقط!



حفظ الله مصر !

 

Thursday, October 26, 2023

غزة .. بين نصرة القضية والأهداف الخفية !

بقلم:إيهاب الشيمي


قد يعد الكثيرون كلماتي هنا من باب الإغراق في نظريات المؤامرة والمؤامرة المركبة، ولكن  صفحات التاريخ التي لا يقرأها الكثيرون عادة، أو من يتعمد من قرأها أن يتجاهل إمكانية تكرارها، تحمل الكثير من الإشارات والتنبيهات التي لا نلتفت إليها في إطار لهفتنا لمتابعة حلقة جديدة من الصراع مع الكيان الصهيوني والإمبريالية العالمية الجديدة المتمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية !

 

ذلك الصراع الذي نستدعي فيه مع كل حادث جديد مشاعر القهر والأسى والألم والكراهية و الغضب والإحساس بالعجز الشديد لننتهي أخيراً بالبحث عن نعمة النسيان والمضي قدماً في مسيرة لا نريد أن نتعلم من عثراتنا العديدة خلالها

 

فمثلما فعلت حماس و إسرائيل في نوفمبر 2008 باستهداف كلا منهما للآخر عقب فترة طويلة من الهدنة، فعل الإثنان نفس الشئ في يوليو 2014، و استخدما نفس السيناريو الذي يبدأ بقصف سرايا الجهاد الاسلامي و حماس لجنوب إسرائيل بالصواريخ، لتبدأ إسرائيل بعدها عملية واسعة تشمل القصف المركز وتنتهي بالاجتياح البري، ليسقط خلالها الآلاف من الضحايا الفلسطينيين بين قتيل و جريح مقابل بضعة عشرات فقط من الإسرائيليين، و ذلك دون مكسب عسكري او سياسي او استراتيجي يمكن حسابه للطرف الفلسطيني في الصراع، بل و دون تحقيق الطرف الإسرائيلي، الذي يدعي النجاح والنصر في كل مرة، للهدف المعلن من عملياته وهو القضاء على بؤر الإرهاب في غزة،  وتحييد خطر الصواريخ التي تهدد المستوطنين للأبد!

 

والآن .. وبعد مرور تسع سنوات كاملة في 2023، يتجدد نفس المشهد من جديد ولكن مع الكثير من الإغراق في الدموية والوحشية والعنف المفرط هذه المرة، مع السماح في حادثة غير مسبوقة في تاريخ الصراع بين الطرفين، بسقوط الآلاف من الضحايا على الجانب الإسرائيلي بين قتيل وجريح من المدنيين والعسكريين، ونزوح وإخلاء الآلاف من المستوطنين من غلاف غزة، بل وأسر المئات من المدنيين وأفراد الجيش الإسرائيلي، والعشرات من حاملي جنسيات الولايات المتحدة وأوروبا بما يمنح رعاة إسرائيل في واشنطن وبروكسل الحرية لإعطائها الضوء الأخضر لارتكاب كل ما تشاء من جرائم في حق المدنيين في غزة حمايةً للإسرائيليين وضماناً لعودة رهائنهم، وحفاظاً على الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط كما يدعون!


ولكن ما لم يتفطن إليه الكثيرون هنا .. وما يمكن أن يمثل إشارة خفية تربط كل تلك الأحداث، هو ذلك التشابه الغريب في الواقع السياسي و الاقتصادي لكل من "حماس" و إسرائيل في الحالات الثلاث، ففي العام 2008 كان الانقسام يجتاح المجتمع الإسرائيلي للدرجة التي ظهر معها لأول مرة و بشكل واضح انقسام الأحزاب الرئيسية على نفسها مما أدى في النهاية لتولي أولمرت و هو من حزب "كاديما" المنشق عن "الليكود" لمقاليد الأمور، و هو ما كان يجب أن يتوقف فوراً حفاظاً على تماسك الدولة العبرية، و الذي كان لا بد لها من خطر حقيقي يوحد أطرافها و فرقائها السياسيين تحت لواء إسرائيل الأم، و هو ما قدمته حماس لهم على طبق من ذهب.


بينما نجد على الجانب الآخر من المشهد في العام ذاته، ما لا يمكننا إغفاله من الأزمة المالية الخانقة التي وصلت إليها الحكومة المقالة في غزة التي ترأستها حماس في انشقاق غير مسبوق عن السلطة الوطنية في رام الله في العام 2007، و هي الأزمة التي هددت بفقدان حماس لشعبيتها التي اكتسبتها بين أوساط الفلسطينيين بفضل لعبها على وتر فشل السلطة في تحقيق آمال الشعب الفلسطيني، و ليس اقتناعاً من ذلك الشعب بقدرة حماس على حل نفس المشكلات أو تحقيق ذات الآمال!


و بعد مرور ست سنوات كاملة، و تحديداً في يوليو 2014، وجدنا أنفسنا و نحن نعيش نفس السيناريو، بنفس المعطيات، بل و بنفس الأشخاص و الأحزاب، فنتنياهو الذي تزعم الدعوة لتدمير غزة في 2008 و فاز على إثرها برئاسة الوزراء في مارس 2009 خلفاً لأولمرت، هو نفسه من يتولى رئاسة الوزراء عن حزب الليكود أيضاً، و ها هما إسرائيل و حماس تمران بنفس المشكلات التي كانتا تمران بها في العام 2008 مع اختلاف بسيط في بعض التفصيلات، فنتنياهو يسعى لتوحيد الإسرائيليين تحت زعامة الليكود، بعد الاحتجاجات و الانقسامات التي شهدتها الساحة الإسرائيلية في السنوات الثلاث الماضية تزامناً مع الربيع العربي لأسباب اقتصادية و اجتماعية متعددة من جهة، و لأسباب تتعلق بالانشقاق الناتج من الخلاف بين تيارات اليمين القومي و اليمين الديني المتشدد و بين التيارات التنويرية لمرحلة ما بعد الصهيونية، و تأثير ذلك الخلاف على تصور آفاق التسوية مع الفلسطينيين، بل و انقسام جبهة اليمين ذاتها بعد إقرار فرض الخدمة العسكرية الإجبارية على طوائف الحريديم المناهضة للصهيونية كتيار علماني و التي كانت من الطوائف المعفية من هذه الخدمة الوطنية طبقاً لتعاليمها المتشددة

 

و ها هي حماس من جديد على الجانب الآخر من المشهد في 2014 تبحث عن طوق نجاة يخلصها من حقيقة فقدانها للكثير من التعاطف الشعبي الداخلي و الإقليمي و الإسلامي كحركة مقاومة وطنية بعد مواقفها السياسية الأخيرة من العديد من ثورات الربيع العربي، و يخلصها من ناحية أخرى من كارثة عدم قدرتها على دفع رواتب موظفيها في القطاع، و كذلك التنصل من اتفاق المصالحة مع "فتح" الذي أضطرت لإتمامه للوفاء بتلك الالتزامات و تجنب ثورة شعبية ضدها في غزة قد لا تستطيع ميليشياتها السيطرة عليها.


نعم، عزيزي القارئ، ما أود أن أقوله وبكل بساطة، هو أن الحرب بين الطرفين اندلعت في المناسبتين لتخدم مصالح الإسرائيليين و حماس على حد سواء،  بل إنها نشبت أيضاً في ظل تولي نفس الأحزاب ونفس الأشخاص للسلطة في إسرائيل، ولا أظن أن تغييراً قد حدث في قيادة حماس كذلك!

 

كما سبق و ذكرت هنا، فكل تلك التنبيهات و الإشارات التي يبعث لنا بها كتاب التاريخ، لا تمكنني من أن أنظر للمشهدين بصورة منفصلة عما يحدث الآن تحديداً في غزة في العام 2023، فمن يتزعم المشهد في الحكومة الإسرائيلية الآن هو بنيامين نتنياهو من جديد، وما يحدث في غزة وجنوب إسرائيل حالياً بكل دمويته وتهديداته الإقليمية والدولية،  واستدعاءاته  الإنسانية و التاريخية ، ومخاطره الأمنية والاقتصادية، يغطي بشكل كامل على كل ما سواه من انقسامات داخلية كادت أن تدمر إسرائيل من الداخل بعد إصرار نتنياهو على تمرير قانون السلطة القضائية الجديد، والذي يمنح رئيس الوزراء ما يمكن أن نسميه سلطة مطلقة تتجاوز سلطات المحمكة الدستورية، وهو ما أشعل ثورة من الغضب في كافة قطاعات المجتمع الإسرائيلي، بل وفي البيت الأبيض والكونجرس الأمريكي كذلك، وأطلق العنان لمئات الآلاف من الإسرائيليين ليخرجوا للتظاهر ضد حكومة نتنياهو ونواب الكنيست لعدة أشهر في كافة أنحاء إسرائيل، وهو ما امتد كذلك ليشمل انقساماً رهيباً داخل جيش الدفاع الإسرائيلي، وعلى رأسه وزير الدفاع يوآف غالانت الذي انقلب على نتنياهو بسبب ما أحدثه مشروع ذلك القانون من شرخ غير مسبوق داخل المؤسسة العسكرية، حيث هدد العشرات من الضباط الكبار بالاستقالة من الخدمة، وامتنع الآلاف من جنود الاحتياط عن الامتثال للأوامر الصادرة لهم حتى يتراجع نتنياهو عن خطته لتعديل ذلك القانون.

 

وقد يعتبرني البعض ممن يقرأ هذا المقال متحاملاً على رجال المقاومة الفلسطينية أومنكراً لتضحيات الشهداء منهم أو مجحفاً لما يقومون به من أجل رؤية راية فلسطين وهي ترفرف على أرضها التي اغتصبها الاحتلال برعية كاملة من الغرب لما يزيد على سبعة عقود، والعكس تماماً هو الصحيح، فلا أحد يمكنه أن ينكر تلك التضحيات أو ينفي ذلك الحق في وطن مستقل وحر، ولا أظن أن هناك عربياً واحداً لم يسعده أن تتذوق إسرائيل ولو رشفات قليلة من نفس كأس الخوف والرهبة والنزوح وخيبة الأمل والانكسار كما حدث يوم السابع من أكتوبر، ولكن ما أنا على قناعة تامةٍ به هو أن هؤلاء المجاهدين والشباب الوطني قد تم التغرير بهم تحت مسميات دينية ووطنية لخدمة أهداف قادة حماس التي تحقق في المقام الأول الخطة التوسعية لملالي الثورة الإسلامية في إيران، مثلهم في ذلك مثل حزب الله في لبنان وميليشيات الحوثي في اليمن، والحشد الشعبي في العراق، وهي الأهداف التي تتقاطع في عدة نقاط أساسية مع العديد من الأهداف الاستراتيجية السياسية والاقتصادية والعسكرية لواشنطن وحلفائها، وتساهم بشكل كبير في رسم خريطة الشرق الأوسط الجديد، لتصب في النهاية، وبشكل ملحوظ، في مصلحة إسرائيل!


وما أريد أن ألفت انتباهكم إليه هنا أيضاً، هو ذلك الدور الخفي لمن يدعون نصرة القضية الفلسطينية واحتكار الحديث باسم الشعوب العربية، وهو ذلك الدور الذي يعتمد على التركيز على ظاهر الأحداث، و التعتيم على ما يكمن خلفها فعلياً من خلال اللعب على أوتار التعاطف مع الضحايا من الأطفال والنساء والمدنيين الأبرياء،  وعرض مشاهد الأشلاء و الدماء و الأجساد الممزقة، بغرض إلهاء الجميع عن المخطط الحقيقي الذي يشمل تمزيقاً من نوع آخر .. ولكن للأوطان هذه المرة!

فالمخطط، لمن يريد أن يقرأ المشهد منذ إعلان قيام دولة إسرائيل، هو تفريغ الأراضي المحتلة بالكامل من سكانها، ودفعهم خارجها هرباً من القصف والفقر والجوع والمرض، ليتوجهوا بالتالي إلى أقرب ملجأ آمن، وهو "سيناء" بالطبع في هذا الحالة، لتجد مصر نفسها في النهاية أمام خيارين لا ثالث لهما ..

 

الأول أن تغلق الحدود في وجه النازحين ليتم اتهامها بالتجرد من الإنسانية وترك أبناء عروبتها ليلاقوا حتفهم المحتوم داخل غزة دون شفقة أو رحمة، ولتجد السلطة نفسها في النهاية أمام نقد واتهامات دولية بخرق القانون الإنساني، وغضب شعبي جارف "عفوي أو مخطط له" يعود بعقارب الساعة من جديد لسنوات عدم الاستقرار والتراجع الاقتصادي والأمني والانفصال بين الشعب والسلطة الحاكمة!

 

أما الثاني، فهو أن تستسلم لتلك الضغوط، وتبني قرارها على حسابات خاصة يمكن من خلالها السماح بتواجد اللاجئين في سيناء، لتصبح غزة مجرد منطقة عازلة فارغة تضمن أمن إسرائيل، بينما تصبح سيناء  في المقابل قاعدة لانطلاق ونشر الفكر الجهادي الذي لن يكون باتجاه إسرائيل هذه المرة، ولكن باتجاه مصر وشعبها وقيادتها وأمنها واستقرارها، لتسقط في النهاية آخر قلاع الأمة العربية الصامدة في وجه المخطط الشيطاني تحت وطأة الضربات المتتالية لقوى الاستعمار، ولكي يتمزق بعدها جسد الوطن العربي بأكمله، ولكن دون أن يتم نشر مقاطع لأشلائه على شاشات التلفاز، ودون أن يجد من يتعاطف معه في باحات مجلس الأمن والأمم المتحدة، أو حتى على منصات التواصل الاجتماعي!

 

و لا يسعني هنا عزيزي القارئ إلا أن أذكرك أن خطط الصهاينة ورعاتهم في واشنطن ولندن وكافة عواصم القوى الاستعمارية لرسم خريطة "إسرائيل من الفرات إلى النيل" لم تتوقف يوماً وإن ظن البعض عكس ذلك، فهي مستمرة من خلال توزيع العديد من الأدوار على الكثيرين في منطقتنا، وما أكثرهم،  من الباحثين عن الثروة، أو الباحثين عن السلطة، أو الساعين لتحقيق أحلامهم التوسعية، أو أولئك الحمقى المنساقين خلف خطابات التكفير والتفجير!


في النهاية، لست أطالبك بتبني نظرية المؤامرة كما أفعل أنا في كثير من الأحيان، و لا بالتخلي عن إيمانك، أن كنت ممن يعتقدون ذلك، بأن تلك النظرية مجرد مهرب للعرب للتخلي عن حقيقة فشلهم في مواجهة التحديات، و لكني ارجو منك إعادة النظر في المشهد برمته كي لا تمر المزيد من الأجندات، وسط انشغالنا بالنحيب على المزيد من الضحايا الذين نفقدهم يوماً بعد الاخر، والانكباب على تخوين كل منا للآخر، بينما يسعى العدو لتوحيد صفوفه على اشلاء شهداءنا وشظايا أوطاننا المتناثرة على تلك البقعة البائسة المسماة بالشرق الأوسط!

 

نعم عزيزي القارئ، إما أن نستفيق، وإما أن ننتظر، كالعادة، الفصل القادم من المسرحية .. حين تتأزم الأمور من جديد هناك في إسرائيل وعلى الجانب الآخر لدى حماس في غزة، و الأهم .. حين تريد واشنطن تمرير بند آخر من بنود المؤامرة، لكنه لن يقتصر هذه المرة على بقعة بعينها، بل سيشمل مصر والأردن، ولا أستبعد أن يشمل سوريا أيضاً هذه المرة بعد أن مهد ترامب لذلك في عام 2019 باعترافه بسيادة إسرائيل على الجولان !

لا داعي أن أرسل لك بطاقة دعوة لحضور المسرحية .. فسنكون جميعاً في الصفوف الأولى من المتفرجين، وسنصفق لنجاح العرض رغماً عن أنوفنا!

 

حفظ الله مصر.